كنت من معارضي «نظرية المؤامرة»، وكنت أؤمن بالمثل الشعبي العربي القائل «إذا وقعت البقرة كثرت سكاكينها»، أو كما يقال في الدول الخليجية «إذا طاح الجمل تكثر سكاكينه»، ولكن بعد أن نظرت بعين فاحصة ومدققة في أحوال الدول العربية التي تهاوت ودمرت واحدة تلو الأخرى، تأكدت أن ذلك لم يحدث مصادفة، بل جاء نتيجة خطة مدبرة ومحكمة، وتم تنفيذها في 3 خطوات فقط.
استطاعت أمريكا إسقاط وإسرائيل تدمير 5 دول عربية، وها هو السودان يترنح، لكنهما لم يستطيعا تنفيذ المؤامرة إلا بعد ظهور بوادر الفتنة، وتدخلا هما وحلفاؤهما وأصحاب المصالح بكل ثقلهم، من أجل تسريع وتيرة السقوط، واستمرار الفوضى إلى ما لا نهاية. وهذا السيناريو يتلخص في ثلاث خطوات لا رابع لها:
الأولى «تأجيج الصراعات بين أبناء الوطن الواحد، سواء مذهبية أو طائفية أو قبلية أو مناطقية أو سياسية».
الثانية «تشجيع الأطراف المتصارعة على حمل السلاح ومواجهة الطرف الآخر والانتصار عليه وسحقه، ودعمهم جميعًا بالمال والأسلحة».
الثالثة: «إطالة أمد الصراع المسلح، وتشجيع كل طرف على التمركز وإعلان السيادة في مناطق محددة، باستخدام القوة المسلحة، وعدم الرضوخ للطرف الآخر أبدًا، والدخول في مفاوضات شكلية أو صورية تنتهي غالبًا إلى استمرار الصراع والفوضى».
تكرر المخطط بحذافيره في دول العراق وسوريا واليمن وليبيا، ومن قبلها الصومال. لم يأت العدو من الخارج يتآمر على هذه البلدان، إلا عندما رأى أن هناك نيران تحت الرماد، فبدأ في النفخ فيها، حتى تزداد اشتعالًا وتستمر أطول فترة ممكنة.
استخدمت أمريكا الخطة ذاتها في الأزمة التي تضرب ليبيا منذ أكثر من 12 سنة، وتركت البلد نهبًا العصابات والميليشيات المناطقية والإرهابية، وسلمته إلى تركيا، لتعمل «حارس أمن» بالوكالة، وحتى يتم نهب ثروات الشعب الليبي، وليست هناك بارقة أمل في خروج ليبيا من هذا النفق المظلم، لأن المؤامرة تقضي بأن يعيش في الفوضى إلى ما لا نهاية.
ما يعرف في العلوم السياسية باسم «المجتمع الدولي»، ويقصد به الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وروسيا والصين، ليسوا إلا مجموعة من أصحاب المصالح والعداوات، وكلهم أجمعون يتكالبون على الدول المريضة الفتنة، إما بحثًا عن المصالح أو تصفية للحسابات، وفي الوقت نفسه الإجهاز على هذه الدولة، حتى لا تقوم لها قائمة.
السيناريو ذاته يتكرر مع السودان حاليًا، بدون أية تغييرات سوى في أسماء الأشخاص، الذين يخربون بيوتهم بأيدي وأيدي أعدائهم، فالسودان بمثابة «الجمل الذي سقط»، وها هي سكاكين الجزارين تتكاثر عليه، من أجل الإجهاز عليه وتقاسم لحمه وشحمه.
ردود الفعل الدولية حول السودان تتسم بالبرودة وعدم المبالاة بهذا البلد أو أهله، بل إن لسان حال الغالبية العظمى من الدول النافذة تقول «اتركوهم ان شاء الله يولعوا كلياتهم بجاز وسخ»، بل اسكبوا المزيد من الزيت على النار.
ها هي أمريكا أكبر قوة في العالم، التي أن شاءت أطفأت وإن شاءت أشعلت، تقول على لسان رئيسها جو بايدن: إن الولايات المتحدة أغلقت سفارتها في الخرطوم ولكن بشكل مؤقت، وذلك بعدما أجلت واشنطن رعاياها من هناك، مضيفا أن "العنف المأساوي في السودان أودى بحياة مئات المدنيين الأبرياء، وأدعو طرفي الصراع في السودان إلى وقف غير مشروط لإطلاق النار ووقف العنف المأساوي".
الرئيس العجوز لم يتحرك من على كرسيه الوثير، ولم يتخذ أي إجراء لردع الميلشيا المتمردة بقيادة محمد حمدان دقلو «حميدتي»، بل إنه «يدعو» ـ يشكر والله على دعوته ـ «طرفي الصراع» إلى وقف غير مشروط لإطلاق النار، وكأن ما يحدث ليس محاولة من مليشيا مسلحة للاستيلاء على السلطة، وبالمقابل القوات المسلحة السودانية تتصدى لها.
يبدو أن أحدًا من الاستخبارات الأمريكية أو وزارة الدفاع لم تنقل لسيد البيت الأبيض التوصيف الدقيق للأحداث في البلد الأفريقي، بل إنها من الأرجح نقلت له الأمر برمته ووضعت عدة سيناريوهات لما سيحدث مستقبلًا، وأخطرها هو المساواة بين الفريقين أو «طرفي الصراع»، وإيصال رسائل لكل طرف أن «أمريكا بجلالة قدرها» تدعمه وسوف تمد بالأسلحة والدولارات التي يحتاج إليها لسحق الطرف الآخر، لكن في السر الخطة تقول إنه يجب دعم كلا الطرفين حتى «يخلص كلاهما على الآخر»، أو يخلصا على السودان معًَا.
لم تطلب أمريكا عقد جلسة عاجلة في مجلس الأمن لبحث الأزمة في السودان، لم تتقدم أية دولة أوروبية بهذه الطلب، لأن الهدف هو استمرار الاقتتال الداخلي وتدمير الجيوش الوطنية وإسقاط الدول في دوامة غير نهائية من الفوضى والفقر، وهو ما يعرف بـ«حروب الجيل الرابع»، التي تستهدف نشر الفتن والاقتتال الداخلي في البلدان، وبخاصة الدول العربية، حتى يتم تدميرها كليًا، والغريب أن هذا البروفيسور الأمريكي ماكس مايوراينك، الأستاذ في معهد الأمن القومي الإسرائيلي هو صاحب هذا المصطلح، وهو من وضع الأسس له، من أجل تدمير الدول العربية، تحقيقًا للمصالح الإسرائيلية، وقد نجح هذا المخطط بشكل هائل، في تدمير مجموعة من أقوى الدول العربية التي كانت إسرائيل تخشاها، وهي العراق وسوريا وليبيا واليمن، وها هو السودان يسقط في الفخ نفسه، «ومحدش سمى عليه».
وإذا كانت أمريكا ليست لديها رغبة في إنقاذ السودان، فإن باقي دول العالم القوية، وبخاصة دول أوروبا، لن تجرؤ على العمل عكس الرؤية الأمريكية، وإلا فإنها سوف تتركهم فريسة سهلة أمام الدب الروسي، بل إن أمريكا تتعامل بالطريقة نفسها التي تعاملت بها في الأزمة السورية عندما وقفت إدارة باراك أوباما تتفرج على ما يحصل من اقتتال داخلي، حتى تهدم البلد، وصار خرابة، وصارت الغربان الإيرانية والتركية والروسية تنعق فيه، وأصبحت إسرائيل تضرب أية نقطة في سوريا وقتها تشاء.
الخطة الأمريكية معروفة ومكشوفة، وتحدث عنها الجنرال ماكس مانوارينج خبير الاستراتيجية العسكرية في معهد الدراسات التابع لكلية الحرب الأمريكية، في محاضر له بإسرائيل في 13 أغسطس 2013، قال فيها: «أسلوب الحروب التقليدية صار قديماً، والجديد هو الجيل الرابع من الحروب، ليس الهدف تحطيم المؤسسة العسكرية لإحدى الأمم، أو تدمير قدرتها العسكرية، بل الهدف هو: الإنهاك، والتآكل البطيء، لكن بثبات، والهدف هو إرغام العدو على الرضوخ لإرادتنا».
وأضاف أن هذه الخطة تتلخص في «زعزعة الاستقرار، وهذه الزعزعة ينفذها مواطنون من الدولة العدو لخلق الدولة الفاشلة، وما يهدد فكرة سيادة الدولة العدو، وخلق إقليم خارج سيطرة الدولة تتحكم به مجموعات غير خاضعة للدولة، محاربة وعنيفة وشريرة، حرفياً، وهنا نستطيع التحكم، وهذه العملية تنفذ بخطوات ببطء وهدوء باستخدام مواطني دولة العدو، فسوف يسقط عدوك ميتاً».
المفاجأة أن ما يحدث في السودان من فوضى تنبأ به باحث سوداني هو الدكتور محمد حسين أبو صالح في دراسة له بعنوان «كيف تدمر دول في خطوتين؟» وقال فيها: «في إطار الحرب اللاخطية (الحرب دون بندقية) دخلنا في سلسلة أزمات لا حصر لها منذ الاستقلال، أزمة نظام الحكم، أزمة الجنوب، الأزمات السياسية والاقتصادية، أزمة دارفور، أزمة المخدرات، بداية التفتيت الوجداني وزراعة الكراهية، نفس الذي يحدث إقليمياً، أنظر كيف يحارب أبناء البلد بعضهم البعض، العراقي يضرب العراقي والسوري يضرب السوري، اليمني يضرب اليمني، الليبي يضرب الليبي،...إلخ نتحارب بشعبنا وسلاحنا ومالنا لصالح العدو. منتهى الغباء، كل ذلك لغياب العقل الاستراتيجي والرؤية الوطنية الجامعة».
رغم أن الخطة محكمة ومجربة في أربع دول عربية، إلا أن الأمل مازال معقودا على أن يتعقل أبناء السودان، حتى يمكن للبلد الإفلات من هذا المصير الأسود. فاللهم احفظ السودان وسائر بلداننا.
التعليقات