على الرغم من أنّ خطاب الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في القمة العربية الأخيرة في جدة، كان سلبياً في حقّ بعض الدول العربية، لناحية توجيه اللوم "المبطّن" إلى بعض الدول العربية، إلاّ أنّها وخصوصاً المملكة العربية السعودية، قد تكون أفضل وسيط محايد لحلّ الأزمة في أوكرانيا، وذلك للأسباب التالي:
1. الولايات المتحدة طرف في هذه الحرب إلى جانب أوكرانيا، ولا يمكن أن تكون حَكَماً نزيهاً بين الدولتين المتحاربتين.
2. الدول الأوروبية هي الأخرى، دخلت طرفاً داعماً لأوكرانيا بالسلاح والمقاتلين في مواجهة روسيا، والأمر نفسه ينطبق عليها.
3. الموقف الحيادي الذي اتخذه العرب، وخصوصاً المملكة العربية السعودية وبقية دول مجلس التعاون الخليجي، يجعلهم على مسافة واحدة من روسيا ومن الولايات المتحدة في الوقت نفسه، وهذا ما يؤهلهم إلى لعب دور "الوسيط" القادر على ضمان مصالح جميع الأطراف، خصوصاً أنّ لا مطامع للدول الخليجية في أوروبا الشرقية.
4. عملت السعودية بانتظام وعلى مدى شهور من أجل لعب دور "الوسيط النزيه"، وظهر ذلك من خلال صفقات تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا. كما أنّها حاولت أن تطرح مبادرة سلام خاصة بها وعرضت إجراء حوار بين الجانبين من أجل اتخاذ قرار "موضوعي ومتوازن"، فلاقى تدخلها رضىً من الطرفين الروسي والأوكراني على السواء.
5. دعوة زيلينسكي إلى قمة جدة، أظهرت رغبة جدّية لدى السعودية من أجل حلّ الأزمة الأوكرانية، ومحاولة الاستماع إلى جميع الأطراف.
"سقطة" الخطاب في جدّة
الهجوم الذي شنّه الرئيس الأوكراني ضد القادة العرب، أكد أنّ زيلينسكي على ما يبدو ما زال غير مستعد للحوار، مفضلاً الاصطفاف خلف الولايات المتحدة حتى الرمق الأخير، وإن كان ذلك على حساب مصلحة الشعب الأوكراني.
ظهر ذلك عندما حاول زيلينسكي اللعب على الوتر "الإسلامي" خلال كلمته في قمة جدّة، حيث قال: "معي هنا السيد مصطفى جميلوف، زعيم شعب تتار القرم، أحد الشعوب الأصلية في أوكرانيا. موطنهم القرم، مركز الثقافة الإسلامية في أوكرانيا. لعدة قرون، كان التتار ويجب أن يظلوا جزءًا لا يتجزأ وقويًا من المجتمع الإسلامي في العالم. لكنّ القرم كانت أول من عانى من الاحتلال الروسي، وحتى الآن الذين يتعرضون للقمع في المحتلة هم من المسلمين".
ثم أضاف زيلينسكي: "هنا في القمة، ثمة أشخاص لديهم وجهة نظر مختلفة حول الحرب، ويطلقون عليها صفة صراع... للأسف، يوجد في العالم وهنا بينكم، من يغض الطرف عن السجون وعن ضمّ الأراضي".
حاول زيلينسكي إحراج الدول العربية، وتصويرها على أنّها تقف على الحياد في مسألة تخصّ المسلمين، أو تساند الجهة التي تتعرّض إليهم. لكنّ زيلينسكي في خطابه "كال بمكيالين" حين تحدث عن مسلمي القرم، متناسياً أنّه وبلاده يغضّان الطرف عن الجرائم الإسرائيلية وقصف المسلمين في غزة وسائر فلسطين، وهذا أضعف موقفه وبدّد القرينة التي حاول أن يدخل من خلالها إلى الوجدان العربي.
كان الأجدى ألا يتطرّق إلى موضوع المسلمين في أوكرانيا على الإطلاق، خصوصاً أن حجم المسلمين في روسيا يفوق أعدادهم في أوكرانيا بأضعاف. فهم ثاني ديانة بعد المسيحية في دول الاتحاد الروسي، وبالتالي فإنّ هذه القرينة تضره ولا تنفعه، خصوصاً أنّ مسلمي القرم كانوا يتعرضون إلى أسوأ معاملة في ظل السلطة الأوكرانية قبل العام 2014.
كانوا يمنعون المسلمين من أداء شعائرهم الدينية ويعاملونهم باضطهاد وتضييق... وهذه وقائع لا تغيب عن أحد، بل هناك العديد من الدراسات والتقارير التي تشير إلى تلك المعاملة السيئة. أضف إلى ذلك أنّ روسيا بعد إعادة ضمّ شبه جزيرة القرم في العام 2014، طوّرت نظامَ مزايا على المستوى الفيدرالي، لتتار القرم الذين رُحّلوا إبان الحقبة السوفياتية، وروسيا لا تُنكر ذلك. وقد اتخذت إجراءات تعويضية للمواطنين المرحّلين، وساعدتهم في مجالات عدّة من بينها دفع ضرائب مخفّضة والحصول على خدمات إجتماعية، والاستفادة من خصومات السفر بواسطة وسائل النقل العام، فضلاً عن مزايا مادية أخرى.
في المقابل، وحتى عام 2014 لم تتخذ كييف أيّ إجراءات مشابهة، بل تكتّمت السلطات الأوكرانية على ملف شبه جزيرة القرم وعلى الحقيقة التاريخية لترحيل تتار القرم، وجعلت من حكمها امتداداً للحقبة السوفياتية، كما أبقت السكان في شبه الجزيرة مكشوفين وبلا أيّ دعم اجتماعي.
لكن حينما وجد زيلينسكي أنّ هذا الملف يمكن أن يفيد وجهة نظره في الحرب، عاد للتصويب عليه.
حماسة العرب تجاه أوكرانيا تتراجع
أوساط دبلوماسية عربية مختلفة أحجمت عن التعليق على مضمون الخطاب، مفضلة الحديث عن إيجابيات المبادرة السعودية من دون الخوض بما كان أفضل لزيلينسكي قوله في قمة جدّة، لكن الأكيد أن العالم العربي لم يستقبل خطابه بالمشاعر نفسها التي ظهرت بداية الحرب.
وُجهت للرئيس الأوكراني العديد من الانتقادات بسبب النبرة التي تحدث فيها، وكذلك بسبب اتهام بعض الزعماء العرب بالصمت أو بالتآمر على بلاده، على حدّ قوله. بدا ذلك الامتعاض بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى لسان النخب العربية، إذ اعتبرت هذه النخب أنّ زيلينسكي "خسر تعاطف العالم الإسلامي" بسبب ما اعتبرته "إساءة لعدالة القضية الفلسطينية"، لحدّ أنّ إحدى الصحافيات العربيات وصفت خطابه بـ"المقزز وقليل الأخلاق"، متسائلة: "هل الاحتلال حرام في بلدك بينما الاحتلال حلال في فلسطين؟". أمّا أحد المحللين السياسيين العراقيين، فرأى أنّ تصريحات زيلينسكي "تعكس تداعيات المسرحية الدموية في أوكرانيا".
أي سلام بحاجة إليه أوكرانيا اليوم؟
أمّا صيغة السلام التي يتطلّع إليها زيلنسكي وحلفاؤه الغربيين، فهي تلك التي تلبي على ما يدبو مصالح الولايات المتحدة، التي تحاول بكل قوتها مواصلة تصعيد الصراع وشن حرب ضروس ضد روسيا، وفي العمق، بواسطة جميع الأسلحة المتاحة... حتى آخر مواطن أوكراني.
أضف إلى هذا أنّ كييف لا تألو جهداً لزعزعة الاستقرار الداخلي الروسي، والشواهد على ذلك كثيرة. بدءاً بتفجير خط أنابيب "نورد ستريم" التي أظهر التحقيقات الغربية أنّ قوات نخبة أوكرانية ضالعة فيه، ومروراً بالقصف المتواصل لمنشأة زابوريجيا النووية على مدى أشهر، ثم قصف الكرملين بالمسيرات، وأخيراً الشكوك حول تفجير سد كاخوفكا...
أنشأت كييف وموّلت العديد من المجموعات السرية من أجل إفتعال التخريب داخل العمق الروسي، باعتبار أنّ نقل المواجهة إلى الداخل الروسي جزء من "المقاومة المشروعة".
لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل هذه الأفعال تساعد على إرساء السلام أو وقف الحرب؟ هل تساعد هذه الأفعال الدول التي تعرض الوساطة، مثل السعودية أو غيرها، على بلوغ السلام؟
الجواب السريع على هذه الأسئلة هو: لا. لأنّ هذه الأفعال تدلّ على أنّ السلطات في أوكرانيا ما زالت بعيدة عن الحوار، وتعتبر أنّ الفرصة ما زالت متاحة من أجل استعادة كامل الأراضي الأوكرانية من خلال الحرب، وعبر خرقٍ هنا أو هجمةٍ مضادةٍ هناك... وهذا من المرجّح ألاّ يفضي إلى حلّ قريب للأزمة الأوكرانية.
التعليقات