ان العقوبات و من ضمنها العقوبات الاقتصادية هي عبارة عن مجموعة من التدابير والاجراءات التي تتخذها الدول أو الهيئات الدولية لممارسة الضغط على نظام سياسي في بلد ما أو منظمة أو فرد معين من أجل التأثير على سلوكهم وسياساتهم وتحقيق أهداف سياسية محددة. يمكن أن تتخذ العقوبات أشكالًا مختلفة، بما في ذلك الحظر الاقتصادي والتجاري وقيود على الصادرات والواردات والمعاملات المالية وتجميد الأصول وغيرها من الإجراءات.
تُفرض العقوبات عادة بهدف تحقيق أهداف سياسية محددة بما في ذلك ردع العدوان، والتصدي للانتهاكات الإقليمية وانتهاكات حقوق الإنسان ومنع انتشار الأسلحة، أو بغرض تعزيز مبادئ الديمقراطية وسيادة القانون. في جوهرها، تعمل العقوبات كأداة تسعى من خلالها الدولة أو الكيان الفارض للعقوبات إلى بسط نفوذها أو فرض إرادتها على نظام سياسي في بلد معين أو على افراد معينين.
وعلى الرغم من أن العقوبات تستهدف عادة أنظمة سياسية أو منظمات أو أفراد معينين، فإن العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلدان تترتب عليها آثار وخيمة على عموم الشعب في الدول المستهدفة، وغالبًا ما تتسبب في إلحاق أذى بالسكان المدنيين وتفاقم الأزمات الإنسانية. تظهر الأمثلة من التاريخ الحديث حالات اثرت فيها العقوبات الاقتصادية بشكل سلبي على شعوب البلدان التي تستهدفها العقوبات، في حين استمر قادة تلك الأنظمة وأسرهم ومساعديهم المباشرين في الاستمتاع بحياة رغيدة ومرفهة مع استمرارهم بممارسة نفس السياسات التي ادت الى فرض العقوبات في المقام الاول.
العقوبات المفروضة من قبل الأمم المتحدة على العراق
في تسعينيات القرن الماضي، فرضت الأمم المتحدة عقوبات اقتصادية على العراق عقب غزوه للكويت. هذه العقوبات التي كانت تستهدف حينها نظام صدام حسين لكن كان لها تأثير كبير على الشعب العراقي حيث أدت العقوبات إلى صعوبة حصول افراد الشعب على السلع الأساسية بما في ذلك الغذاء والدواء، وقد ادى هذا الوضع إلى خلق أزمة إنسانية على الصعيد الوطني اثرت على مختلف فئات الشعب وبالأخص المرضى والأطفال وكبار السن. ومع ذلك، استمر نظام صدام حسين في التمتع بالعديد من الامتيازات والمزايا واستمر بممارسة سياساته القمعية والعدوانية. كان النظام قادرًا على تمويل نمط حياته المترف من خلال تهريب النفط والفساد وأنشطة السوق السوداء وغيرها من الأعمال غير المشروعة.
في الواقع، كان للعقوبات المفروضة على العراق في التسعينيات من القرن الماضي تأثيرا كبيرا على الاقتصاد العراقي وبناه التحتية وقدراته العسكرية، الا أن هذه العقوبات وحدها لم تكن كافية لردع النظام عن الاستمرار في أعماله القمعية وترهيب شعبه والاستمرار بتهديداته للدول المجاورة والمنطقة بأسرها. في النهاية، كان التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والمشكل من عدد من الدول ويضم اكثر من 200 ألف جندي، وليس نظام العقوبات، هو الذي لعب الدورً الحاسم في الإطاحة بصدام حسين ونظامه.
العقوبات على بشار الأسد ونظامه
بعد اندلاع الصراع الاهلي السوري عام2011 فُرضت عقوبات على الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه، من قبل مختلف الدول والهيئات الدولية بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وجامعة الدول العربية. هذه العقوبات كانت للرد على انتهاكات الحكومة السورية لحقوق الإنسان، والفظائع التي ارتُكبت في الحرب الأهلية، واستخدام الأسلحة الكيماوية ضد شعبها. الهدف من العقوبات كان لممارسة الضغط على النظام والحد من حصوله على موارد مالية و الضغط لإجباره على نبذ سياساته القمعية و انتهاكاته لحقوق الانسان.
تشمل العقوبات التي تستهدف بشار الأسد ونظامه قيود على حظر السفر وتجميد الأصول المالية وقيود على المعاملات المالية وحظر شراء واستيراد الأسلحة. تهدف هذه الإجراءات إلى عزل النظام والحد من مشاركاته الدولية وتعطيل قدرته على مواصلة أنشطته العدائية.
بعد أكثر من عقد من المعاناة الشديدة التي تحملها الشعب السوري بسبب العقوبات المفروضة، يبدو أن نظام العقوبات على سوريا بدأ بالانهيار، حيث اتخذت العديد من الدول العربية وحتى بعض الدول الأوروبية، مثل اليونان والمجر، خطوات لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع دمشق سعيًا منها لإعادة تطبيع علاقاتها مع بلد دمره الحرب والاقتتال الداخلي لسنين طوال.
كان العامل المحفز لهذا التحول في الموقف الدولي هو الزلزال الكارثي الذي بلغت قوته 7.8 درجة والذي ضرب جنوب تركيا واجزاء عديدة من الشمال السوري وكانت له العديد من الهزات الارتدادية القوية. تسبب الزلزال بكارثة غير مسبوقة حيث أسفر عن مقتل عشرات الآلاف وتدمير آلاف المباني أو جعلها غير صالحة للسكن. ونتيجة لذلك اصبح مئات الآلاف من الأشخاص دون مأوى وفي أمس الحاجة إلى المساعدة.
دفع حجم الكارثة العديد من الدول على إعادة تقييم سياساتها ومواقفها من النظام السوري وتنحية الخلافات جانباً والمضي بإعادة علاقات دبلوماسية مع دمشق لتقديم الدعم ومد يد العون إلى الشعب في سوريا والذي هو في اشد الحاجة الى كل اشكال الدعم والمساعدة في محنته الانسانية.
ومرة أخرى وعلى غرار العقوبات التي فرضت على العراق في التسعينيات من القرن الماضي، تحمل الشعب السوري عبء التداعيات الاقتصادية للعقوبات، وواجهوا ظروفاً بالغة الصعوبة اتسمت بنقص الغذاء والدواء وتدهور الخدمات الأساسية، بينما تمكن رموز النظام السوري من استغلال الدعم من حلفائه في الخارج وبالانخراط في أنشطة غير مشروعة مثل التهريب والفساد وبالتالي الحفاظ على مستوى معيشة مريح والتمتع بامتيازات مقبولة. كما ان العقوبات ومعاناة فئات الشعب السوري لم تثني نظام بشار من الاستمرار بالقمع وتنفيذ السياسات الارهابية ضد الشعب السوري.
شكوك حول فاعلية العقوبات في تحقيق الاهداف المرجوة.....
في حين انه تم استخدام العقوبات على نطاق واسع على مر السنين، لكن تختلف فاعليتها بشكل كبير في تحقيق الاهداف المرجوة منها اعتمادًا على المتغيرات الجيوسياسية وطبيعة البلدان المستهدفة والدعم الممكن ان يتلقاها المستهدفين بالعقوبات من فاعليين اخريين. في التاريخ الحديث، كانت فاعلية العقوبات وحدها في تحقيق أهدافها المرجوة في تغيير سلوك النظام المستهدف أو تعزيز المعايير والقيم الدولية موضع شك. يتضح هذا عند دراسة العقوبات وتأثيراتها على العراق وسوريا وعديد من الدول و الأنظمة الاخرى.
في حالة العراق، تطلب الأمر غزوًا عسكريًا للإطاحة بالنظام المارق حيث لم تكن العقوبات وحدها قادرة على تحقيق النتيجة المرجوة في تغيير سياسات وتوجهات النظام العراقي آنذاك. وبالمثل في حالة سوريا، لم تؤد العقوبات المفروضة إلى تحقيق التغييرات المرجوة بل ان الطبيعة المعقدة للنزاع السوري والانعكاسات التي خلقتها الكارثة الطبيعية اجبرت العديد من الدول على إعادة تقييم نهجها والبحث عن وسائل بديلة للتعامل مع الازمة السورية وغيرت بعض هذه الدول مواقفها وبدأوا في التواصل مع النظام السوري لأسباب إنسانية.
أمثلة اخرى على فشل العقوبات في تحقيق اهدافها.....
فرضت الأمم المتحدة عقوبات على كوريا الشمالية في العام 2006، وتم تعزيز هذه الإجراءات على مر السنين بهدف اجبارها على الالتزام بعدم تطوير برنامجها للأسلحة النووية وبرامج الصواريخ بعيدة المدى. لم تكن العقوبات رادعا لكوريا الشمالية للتوقف عن الاستمرار بتطوير هذه البرامج، لكن مرة اخرى كان الشعب الكوري الشمالي هو من يدفع ثمن العقوبات ويتم اجباره من قبل حكومته على القبول بشظف العيش في ظل ظروف اقتصادية قاسية.
تكرر نفس السيناريو مع ايران بهدف الضغط عليها لوقف أنشطة تخصيب اليورانيوم، ومرة اخرى وجد النظام الايراني قنوات لتمويل استمراره بتطوير برامجه النووية تاركا شعبه يتحمل عبء العقوبات المفروضة.
أما قصة كوبا مع العقوبات والحصار المفروض عليها من الولايات المتحدة فهي خير مثال على ان العقوبات بعد اكثر من نصف قرن لم تجبر هذه الدولة الكاريبية بالامتثال لرغبات الولايات المتحدة لتعزيز حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية واستمر الحصار واستمرت معاناة الشعب الكوبي.
هناك امثلة اخرى كانت فيها للعقوبات عواقب غير مقصودة على الدول التي فرضتها بالأساس اضافة الى تأثيراتها على شعوب الدول المفروضة عليها هذه العقوبات. في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا سنة 2022 وقبلها احتلالها لشبه جزيرة القرم، قررت دول الاتحاد الأوروبي خفض أو وقف وارداتها من النفط والغاز الروسي بهدف فرض ضغط مالي واقتصادي على موسكو لإعاقة جهود تمويل عملياتها العسكرية في اوكرانيا. هذا الاجراء ارتد مباشرة على دول الاتحاد الأوربي حيث ارتفعت اسعار المشتقات النفطية والغاز في اوروبا وبالنتيجة اضطر المواطن الاوربي ان يتحمل هذا الضغط الاقتصادي. اضافة فان سير الاحداث لا يشير بان موسكو عازمة بالأساس على الاستجابة لضغط العقوبات وايقاف عملياتها العسكرية في اوكرانيا.
ان الاستمرار بفرض عقوبات شاملة او جزئية لتحقيق أهداف سياسية دولية مع كل تداعياتها الانسانية، لا بد من طرح سؤال جوهري: هل ان العقوبات الاقتصادية التي اثبت بانها لا تحقق الاهداف المرجوة منها اصبحت اساليب شريرة بغرض محاولة تحقيق غايات نبيلة؟
التعليقات