لم يعد تعريف السلطة في وطننا سوى تلك الغواية الشيطانية التي تقف أمامها النفس البشرية عاجزة عن مقاومة إغرائها، وما أن تنتشي بها عقول مدمنيها حتى تهوي بهم وتسقط بالضربة القاضية كل القوانين الأخلاقية التي كانوا ينادون بها، وتسقط عنهم ورقة التوت حين كانت تستر عورتهم.
مفهوم السلطة المستحدث بات توصيفه بأنه لحظات إفتراس للرعية حيث لا يجدي أي دواء نافع لها، حين يتساقط ضحايا السلطة تِباعاً قرابين لهذه النشوة المجنونة، إلا أنه وللحق يقال أن الدين ربما يكون من أكبر الخاسرين من ضحايا السلطة وأهوائها، ربما لأنه النقاء الذي تجتمع فيه كل القيم والأخلاق الحميدة وروح المدينة الفاضلة الذي ما إن تقتحمه السلطة حتى تفسده وتحيله إلى خراب ومتاهات ورسائل إفتاء يُشرعن للسلطة جرائمها ويخلط القوانين السماوية بالدنيوية في تبرير مفضوح لأي خطيئة.
وكثيراً ما يقف العقل عاجزاً عن تفسير ظاهرة تحدث في وقتنا الحاضر تعجز كل العقول عن إيجاد الأجوبة الكامنة لها، وهو كيف يعقل لدين عظيم تجاوز عمره الألف وخمسمائة عام أخضع أعتى الإمبراطوريات على الأرض لحكمه كالرومانية والفارسية، وإستسلمت أمام راياته جيوش جرارة في الصحراء، وأخضع الدنيا له، كيف لهذا الدين الذي وصل حكمه إلى أقاصي الهند وذُلّت له حضارات أن تمسك بتلابيبه سلطة مهزوزة أو أحزاب دينية تحكم وفق ما تدعيه الشريعة ضمن إطار الإسلام السياسي ليحيله إلى طقوس دينية تخترع لها مناسبات خاصة وأدعية سياسية وأغطية يختفي تحتها كل أنواع الفساد واللصوصية؟ بل تمادى هؤلاء السلطويين بالتنعم بالغنائم والمباهج وفق ما أجادوا تبريره في الدين في تناقض مفضوح لأقوالهم عن أفعالهم.
من سوء قدر العراقيين بعد عام ٢٠٠٣ أن الدين إمتزج مع السياسة مما وجدتها السلطة فرصة ذهبية لتقاسم الغنائم بطرق الإنقضاض لترسيخ الهيمنة والنفوذ تحت ذريعة الدين أو حجته متخذين منه غطاء لأفعالهم وخطاياهم، في حين تجد خطابهم إلى الشعب بضرورة الزهد والتقشف وترك الكماليات.
ألم يقل يوماً أحد المعممين وهو يعتلي المنبر مخاطباً جمهوره أن (٣٠) ألف دينار (٢٠ دولار) تكفي مصروفاً للعائلة إذا إبتعدت عن أكل النستلة والكماليات المعيشية، في حين يعيش هذا المعمم في قصر من قصور ألف ليلة وليلة ويسير ورائه العشرات من الحمايات المدججة بالسلاح وحياة الترف والرفاهية.
أخطر أنواع الإبتزاز في الدين هو أن يتم إستغلاله لأغراض مغازلة مشاعر الناس في فترات متباينة لضمان ولائهم وتحريك تلك المشاعر بإتجاه من يقف بوجه رجال الدين والسلطة معاً، والغريب في الأمر أن جمهورهم ومهما بلغ به من حالات تذمره وشكواه وعلمه اليقين أن هؤلاء الأحزاب الدينية التي تنقض على السلطة هي السبب في بلوى الشعب وكوارثه وخطاياه إلا أن هذا الجمهور مستعد في أي لحظة للدفاع عن تلك السلطة عندما تطلب منه ذلك في مناسبات سياسية كانت تهدد وجود تلك السلطة.
بالمحصلة الدين هو الضحية الأكبر في بلدنا حين يكون العطش للسلطة يبيح لها كل المحظورات ويُشرعن كل تلك الفضائح من الفساد.
وعلى ما يبدو فإن الكثير من الشعب قد فهم اللعبة وقوانينها حين خرج إلى الشارع في إنتفاضة تشرين وهو يصيح (بإسم الدين باگونه الحرامية) وإستيقظت النفس البشرية في هذه الحقبة المظلمة من الزمن التي يمر بها الوطن، حقيقة أن الدين بريء من السياسة وأفعالها وجرائمها وإن كل ما يحدث في العراق هو صراع محموم على السلطة بكل أنواع الأسلحة المحرمة حتى ولو جعلوا الدين إحدى ضحايا السلطة.
إنقضاضهم وصل إلى الدولة حين علقوها على الصليب بإسم الدين.
يقول أحد المفكرين إن قوة الإسلام السياسي ستسهم من حيث لا تشعر بفصل الدين عن السياسة وأن يعود كل منهم إلى دوره الطبيعي في الحياة ويستعيد الجمهور وعيه بالتفريق بين الدين والسلطة وينتفض للجرائم التي يشيب لها الرضع بعد كل ذلك الزهد والقنوت الذي أوصى به رجال السلطة بذريعة الدين.
هي الصحوة إذاً وإن جاءت متأخرة أفضل من أن لا تأتي أبداً وتلك هي نعمة العقول التي لا زلنا نحتفظ بأجزاء منها.
التعليقات