ليست هبّة عابرة الحراك الذي تشهده السويداء، ولا هو فتنة، ولا مؤامرة خارجية كما اعتاد النظام السوري على وصف أي مظاهرات أو احتجاجات مناهضة له، بل هو حراك شعبي منظّم ومتسق ليس وليدة اليوم أو الأمس، وليس وليدة تدهور الأوضاع المعيشية، رغم أهميتها، وإنّما نتاج سياسات داخلية قمعية متراكمة ومتكرّرة، أقل ما يمكن القول عنها إنّها طائفية ومذهبية أدّت إلى تشريد الملايين وقتل وجرح واعتقال مئات الآلاف من السوريين.
فمنذ بدء الثورة السورية عام 2011، واسم محافظة السويداء يخرج مراراً وتكراراً إلى واجهة الأحداث باحتجاجات ومظاهرات، لكن الحراك الشعبي هذه المرة يبدو مختلف عن ما سبقه، فهذا الحراك الذي تشهده السويداء منذ منتصف آب / أغسطس الفائت، يبدو، ظاهرياً كسابقه، فجّره قضايا محلية نتيجة لقرارات حكومية أو تصرفات أمنية، إلا أنّ المدقّق جيداً في هذا الحراك، يدرك أنّ هناك عوامل ضمنية عديدة ساهمت في اندلاعه وامتداده أفقياً وعمودياً، ليشمل شرائح واسعة من أهل السويداء، بما فيها الرئاسة الروحية الدرزية ممثلة بشيخي العقل حكمت الهجري، وحمود الحناوي، يطغى على تلك العوامل الطابع السياسي، وتعكس بدورها اتساع نطاق حالة الغضب والاحتقان والشعور بالظلم والحرمان، وكذلك اتساع الفجوة بين المجتمع والنظام وفقدان الأمل منه، أو من إصلاحه على الأقل، لذلك جاءت مطالبهم هذه المرّة مختلفة في عناوينها وتفاصيلها لتتجاوز في جزء كبير منها القضايا المحلية المعيشية إلى المطالب السياسية، كإخراج روسيا وإيران من سورية باعتبارهما محتلتين وناهبتين لثروات البلد، إلى جانب إطلاق سراح المعتقلين، وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، الذي ينص على انتقال سياسي وتأسيس نظام جديد.
وبالتالي يمكن القول إنّ هذا الحراك يعكسُ من جهة حجم الاحتقان الداخلي في المحافظة، ويقدّم أكبر دليل على أنّ الاستقرار الظاهر على السطح في العديد من مناطق سيطرة النظام لا يعبّر عن حقيقة الرفض والسخط الذي يمور في البلاد، كما إنّه يعكس من جهة أخرى، وخصوصاً فيما يتعلّق بتوقيته، تحولات معقدة في ديناميات السياسة والأمن ليس في سورية فحسب، وإنما في المنطقة ككل، ويلقي بظلاله على العلاقات الإقليمية والدولية لتسليط الضوء مجدداً على الجرح السوري المستمر منذ أكثر من 12 بعد أن تم تجاهله من القريب قبل البعد، وخصوصاً بعد الانفتاح العربي على النظام السوري، واستعادة النظام مقعد سورية في جامعة الدول العربية، ومشاركته في القمة العربية الأخيرة بالسعودية.
أي أنّ حراك أهل السويداء هذه المرة، لا ينبئ فقط على إخفاق النظام داخلياً بعد تفاقم الأزمات الهيكلية الداخلية السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، بل ينبئ أيضاً على تآكل شرعيته لدى شريحة واسعة من حاضنته، فحرق صور رأس النظام وتحطيم تماثيله، وإغلاق مؤسساته الرسمية غير الخدمية، يعطي انطباعاً بوجود تحدٍّ من أهل السويداء للسلطة واستهدافهم شرعية النظام ورموزه، والأكثر من ذلك تدلّل على إخفاق خطاب النظام السياسي الداخلي مع حاضنته، والذي لم يعد يجدي نفعاً مع الأجيال الحالية التي أظهرت قناعةً كبيرةً ورغبةً حقيقيةً بضرورة التغيير، كما يدل كذلك على فشل واخفاق سردية النظام القائمة على ادعائه بحماية الأقليات، وهي واحدة من أبرز السرديات التي بنى عليها النظام فكرة بقائه وتمسكه بالسلطة، وهو ما يظهره سعي كثير من الشباب السوري في مناطق سيطرة النظام إلى الهجرة إلى الخارج هرباً من الاستبداد السياسي، والتنكيل الأمني، والتقييد الاجتماعي، والتخلف التنموي، والوضع الاقتصادي المتدهور، الأمر الذي يُضفي على حراك أهل السويداء بُعداً عميقاً بات يختصر بكل تفاصيله صراعاً ما بين مجتمع يطمح إلى نظام سياسي جديد تسود فيه الحرية والعدالة والحياة الكريمة، ونظام رافض لأي تغيير، مصرّ على سياساته وسردياته وطريقة تعاطيه مع الشعب.
بالمجمل يمكن القول إنّ رسائل الحراك الشعبي في السويداء باتت تتجاوز الحديث عن اخفاق النظام السوري بعد تفاقم الأزمات الهيكلية الداخلية، إلى اسقاطه، فهذا الحراك، الذي تزامن مع حراك حمل طابعاً فردياً نخبوياً في أوساط العلويين، واحتقان كبير ومتنامي لدى حاضنة النظام في مناطق عديدة من مناطق سيطرته، يظهر أنّ العودة إلى الماضي باتت صعبة ومستحيلة، وأنّ المراوحة بالمكان ستكون مهلكة، خصوصاً مع إدراك شريحة واسعة من حاضنة النظام أنّ تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية في مناطق سيطرته يعود إلى حالة الجمود السياسي، وتعنت النظام في مواقفه، وإصراره على سردياته، التي باتت مكشوفة ومفضوحة للجميع.
التعليقات