هي ليست المرة الأولى، التي تشهد فيها مدينة السويداء السورية ونواحيها احتجاجات صاخبة ضد النظام وممارسات أجهزته الأمنية وميليشياته. إذ طوال أكثر من عقد النزاع الدموي شهدت المحافظة صدامات دامية، كانت تنتهي في الغالب بانتصار إرادة المجتمع الأهلي. من هنا استمر فشل النظام رغم نفاقه الطائفي ومداهناته للمجتمع المحلي في كسب ودّ الأهالي وثقتهم، ولجأ في أوقات أخرى إلى أشدّ الأساليب خسّة لابتزازهم واخضاهم، حين تواطأ مع إرهابيي داعش خلسة عام ٢٠١٨، وعمد هؤلاء، بتنسيق غير معلن، إلى اختطاف العشرات من النساء والأطفال في ريف المحافظة. كان الهدف من وراء هذا الإرهاب الإيحاء لأبناء طائفة الموحدين الدروز، وإرسال رسالة واضحة لهم بأن أيّ تردد منهم في الانحياز إلى جانب النظام وعدم الإذعان له ستترتب عليه عواقب وخيمة. هذا المنهج المطبوع بطابع ذهنية المؤسسات الأمنية للنظام، ظلّ رئيسياً ومعتمداً في تعاطيه مع الأقليات الدينية والمذهبية في البلاد وتحييدها ما أمكن عن الانخراط في الاحتجاجات، التي عمّت البلاد قبل أكثر من عقد، وكان يلجأ إليه في كل مرّة يشعر أو يشكّ بولاء جماعة أو مكوّن من مكونات المجتمع السوري، أو يرغب في إعادة التذكير والتأكيد على ادعائه المخادع بأنه حامي الأقليات.
كان قمع النظام يزداد شراسة بحق تلك الأقليات والطوائف السورية، وبخاصة العلويين والاسماعيليين والدروز، كلما كان يشعر بالارتياب من إخلاصها له، أو بالمقابل تتنامى لديها عدم الثقة في نواياه ومزاعمه حول حماية الأقليات. وبمواجهة حالات غياب الثقة الشعبية بنظامه، كان يلجأ في كل مرة إلى تدبير المكائد والمؤامرات بحقها، وبهذه الطريقة أمعن في إفساد سياق الانتفاضة الشاملة أكثر فأكثر، وعمل على حرفها عن مسارها وطابعها السلمي بدفعها قسراً إلى العنف المباشر والتطرف المذهبي المضاد، عبر خلق انقسامات في المجتمع الأهلي وإشاعة أجواء من عدم الثقة والحذر بين السوريين.
لم يكن النظام هو الطرف الوحيد، الذي كانت له مصلحة في إثارة مخاوف الأقليات، وإسباغ الطابع الطائفي على الحراك، إذ مثلما سطا النظام على إرادة الأقليات، كذلك سطت المعارضة الإسلامية المتطرفة، وفي مقدمتها الإخوان المسلمين على واجهة الحراك الاحتجاجي. وبالتوازي مع خطاب النظام هذا، عمد هؤلاء إلى أسلمة الاحتجاجات، وعززوا في معظم ممارساتهم ومواقفهم المعلنة صحة مزاعم السلطة حول إسلاموية الاحتجاجات وتطرفها. فما أن انخرط الإسلاميون وتيارهم السياسي المتمثل بـ(حركة الإخوان المسلمين) بعد ثلاثة شهور من اندلاع الانتفاضة حتى سارعوا إلى السطو عليها، ولم يرتضوا لأنفسهم دور الشريك فحسب، إنما وضعوا نصب أعينهم هدف الاستيلاء على الثورة ماديّاً ورمزياً، وطبعها بطابعهم الأيديولوجي الخاص. وهنا بدأت عملية (القرصنة) الكبرى للثورة.
كانت هذه الغاية تتسق تماماً مع المزاعم التي روّج لها النظام حتى هذا الوقت عن حركة الاحتجاج بوصفها حركة طائفية متطرفة. ولا ريب لدينا في أن معظم تسميات الجموع (الدينية) التي أطلقتها جهة واحدة هيمنت على الثورة واحتكرت لسان الثوار، قد خدمت النظام أكثر من أي شيء آخر. فبدلاً من أن تستقطب السوريين حول مطالب الثورة في الديمقراطية والمساواة وتحقق وحدتهم السياسية، أثارت المخاوف والظنون لدى شرائح واسعة وخلقت انقساماً واستقطاباً في المجتمع السوري لمصلحة النظام. إن فوضى تسميات (الجموع) التي استأثرت بها صفحة (الثورة السورية...) وأخذت تفرضها ضمن شروط وخيارات محدودة من قبيل جمعة (العشائر) و(خالد بن وليد) و(الله أكبر)....الخ كانت تعكس بؤساً سياسياً عميقاً في الوعي لدى هؤلاء. ومثل تلك التسميات كانت تخلو تماماً من أية قيم وطنية جامعة ومشتركة وحديثة، ناهيكم بأنها كانت لا تخدم سياق توحيد قوى الشارع الوطني في مواجهة الاستبداد الدموي.
والحال أنه منذ أن قرصنت تلك الجهات السياسية انتفاضة الشعب السوري وشرعت آنذاك بفرض رموزها السياسية والمعتقدية-المذهبية على الحراك التاريخي هذا، حتى انتهت إلى السطو النهائي على الحراك المعارض، بموازاة سطو النظام على مخاوف الأقليات الذي صار، من الآن فصاعداً، ناطقاً باسمها ومعبراً عن مصالحها. كان من شأن ذلك أن أثار المخاوف المضمرة لدى الهويات الثقافية المختلفة معها وعمق من الارتياب بنوايا المعارضة الحقيقية، وبالنتيجة خلق صدعاً في جبهة الرفض للاستبداد بدا ملامحه واضحة بالتشكّل منذ الشهور الأولى وترسخت إلى الآن. وهو ما أراده الطرفان، النظام من جهة والمعارضة الطائفية من جهة أخرى، واستحال الربيع السوري، إلى ربيع للعربدة والمذهبية من قبل الطرفين معاً.
في نهاية المطاف كان لا بدّ من أن يقود هذا الاحتكار المشوّه لصوت الحراك والارتهان لخطاب أيديولوجي-ديني إلى القول (ليس مهماً أن تكون ضد نظام الاستبداد طالما أنك لا تنحو نحوي، وتتصرف مثلي، وتؤمن على طريقتي، وتتبنى انتمائي وولائي، وخلا ذلك فأنت عميل للنظام وضد الثورة). واصلت المعارضة الإخوانية هذا النهج في رؤيتها إلى حالة الصراع الراهن، وهي في هذا كانت تتماهى مع منطق النظام القائل إما أن تكون معي أو أنت ضدي. فمحاولتهما خلق حالة من الاصطفاف الأيديولوجي للشارع السياسي عبر القول بأن الشعب السوري منقسم إلى جبهتين (أسديون ولا أسديون)، (معارضة و موالاة) مثّل تسفيهاً للمسألة وتمييعاً لجذر الانقسام وواقعه في سوريا.
- البعث والإسلام السياسي في سوريا.. الانحرافات الأيديولوجية المشتركة
- سوريا أنينُ الكَمَد المخنوق
- الثورات الكئيبة والثورات المرحة
كان هذا المنطق الميتافيزيقي الثنائي (ثنائية الخير والشر) هو منطق سطحي وشكلي للغاية، وتكفيري في طبيعته ومراميه. الانقسام في المجتمع السوري كان أعمق بكثير من هذا التصنيف التبسيطي والسطحي وأشدّ تعقيداً. القائلون بهذا الرأي كانوا يتجاهلون واقع أن هناك شريحة عريضة لا يستهان بها من السوريين عارضوا النظام وما زالوا يعارضونه بشدة دون أن يكونوا أقل معارضة لأسلوب ومنطق المعارضة المعلنة، وكان موقف هؤلاء أكثر تماسكاً، أخلاقياً وسياسياً، من القائلين بتلك الثنائية التكفيرية. فقد عارضت تلك الشريحة العريضة وتعارض النظام لاعتبارات كانت تتعلق بالقهر الاجتماعي وسياسات الاقصاء، التي مارسها النظام طوال نصف قرن وعجزت المعارضة حتى الآن عن تقديم الحلول العملية والبديلة، التي تضمن وحدة السوريين على أساس المساواة في المواطنة. وفي الواقع كان طموح وأهداف هذه الشريحة في التغيير السياسي تتخطى أهداف النظام والمعارضة معاً، لأنها بخلاف طرفي النزاع كانت تتطلع إلى سوريا ديمقراطية تضمن التنوع القائم بين مواطنيها وترقى بهم، وتؤمن بأن حرية أيّ فرد سوري ومساواته هما شرط لحرية ومساواة جميع السوريين. وضمن هذا الأفق يمكن فهم مواقف الأقليات السورية، التي حظيت بتكفير وتخوين واسعين من قبل المعارضة الإخوانية. ومن منظور تجاوز هذه الأزمة البنيوية لخطاب المعارضة يمكن النظر إلى خطاب الاحتجاجات الأخيرة في السويداء والساحل السوري.
دعونا نعترف هنا صراحة بأننا عشنا ونعيش حرباً أهلية بكل المعايير وبمواصفات نموذجية للحروب الأهلية التي عرفها التاريخ، مع فارق يتمثل ببقاء النظام حتى هذه اللحظة على سدة الحكم. إلا أن اتفاق النظام والمعارضة في سوريا على إنكار ذلك دليل على أن الطرفين كانا يمارسان هذه الحرب بإمعان ودراية، وأكاد أقول بمتعة وسادية. لم يعد مهماً من شرع بها أو بدأها؟ إن المهم الآن هو من استمر ويستمر فيها وهو راض وواع عما يقوم به؟ لقد أوصلت حالة الاستقطاب والاختلاف الأيديولوجي والاصطفاف بين السوريين إلى حدود المجابهة القصوى، التي انتفت معها كل إمكانية للتواصل، وعلّة كلّ ذلك، كما بدا جليّاً، كمن في منطق تعاطي المعارضة السورية والنظام معاً مع الأزمة.
تأتي الاحتجاجات الأخيرة لتحدث انزياحاً عن هذا المسار الحتمي، الذي فُرض الانتفاضة السورية منذ البداية وطبعها بطابع طائفي متطرف، لتطرح خطاباً وطنياً وسلمياً، سورياً جامعاً، دون الارتهان لأيّة أجندة إقليمية أو أيديولوجية. فقد أدرك المحتجون، وعبّروا عن ذلك في شعاراتهم، إن الرؤوس الساخنة في المعارضة السورية، من الإخوان والجهاديين، خدمت النظام والأطراف الإقليمية أكثر من أعوانهم، الرؤوس الساخنة التي تجاهلت حقائق الوضع السوري، وتعاطت معها بنفس منطق النظام. الرؤوس الساخنة التي أرادت أن تقدّ مستقبل سوريا طبقاً لأهوائها وأوهامها الأيديولوجية، الرؤوس الساخنة، التي لم تدرك في الوقت المناسب أن السوريين أصبحوا على شفير هاوية الحرب الأهلية، وهي ما تزال تتبجح وتتغطرس وتعاند حتى هذه البرهة، ولم تدرك بعد أن مستقبل سوريا والسوريين أهم من غرورها ومن بقاء هذا النظام الآفل؟ وبالفعل ترقى الشعارات المعلنة من قبل المحتجين في ساحات مدينة السويداء ونواحيها إلى مستوى التعبير الدقيق والمكثف عن الطموح للسوريين جميعاً في التغيير الشامل الذي يؤسس لوعي مشترك بالمواطنة؟
إن الثورة السورية الكبرى في الربع الأول من القرن العشرين، التي انطلقت من جبل العرب، وأجمع السوريون على أن يقودها ويتزعمها فارس من طراز سلطان باشا الأطرش، كان شعارها الأبرز هو (الدين لله والوطن للجميع). إن الكثير من ثورجيي الأزمة، والمعارضة (الإخوانية حكماً) كانوا عاجزين، لا بل لا يملكون جرأة رفع هذا الشعار. على العكس من ذلك، أشاعو هستيريا طائفية أخذت عدواها تنتقل بسرعة مرعبة، راحت تلتهم ما تبقى من قيم التعايش والتسامح في الثقافة السورية، بسبب من الخطاب الإسلاموي المتهور لهؤلاء، فهل سيعيد أحفاد سلطان الأطرش تصويب هذا الانحراف الكبير في مسار الوطنية السورية الجامعة؟ هل سيستردّون بشجاعتهم العقلية والمستنيرة معاني ودلالات تضحيات السوريين طوال هذه الحقبة الدموية؟ إن هذا التفاؤل هو الذي يفسر التوجّس المشترك للمعارضة (الإسلامبولية) والنظام وصمتهما المريب إزاء انتفاضة السويداء، لأنها استطاعت في جولة واحدة من النزال أن تعرّي وطنيتهما المهترئة، وتكشف عن الجسد القبيح والقميء وراء شعاراتهم الطائفية والعنصرية، وهنا تكمن المفارقة.
د. سربست نبي
أستاذ الفلسفة السياسية - جامعة كويه
التعليقات