كان في مشاهد اجتياز السياج الحدودي بما فيه من تعزيزات أمنية قوية واقتحام المستوطنات الاسرائيلية من قبل كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس بوجود عنصر المباغتة مع تنفيذ عمليات الأسر ما يعيد للأذهان ذكريات عبور المصريين في حرب أكتوبر73، هي مواجهة أرادت من خلالها الحركة توجيه رسائل مشفرة في مرحلة يقترب فيها الصراع العربي الاسرائيلي من فصله الأخير مع قرب تحقيق اختراق حقيقي في عملية السلام بين السعودية واسرائيل وما أتبعه من اتصالات على مستوى رفيع مع الجانب الفلسطيني في رام الله، لا يخلو الأمر أيضا من محاولة حماس التذكير بأنها موجودة في قلب معادلة الصراع بعد أن كثرت التساؤلات عن غيابها عن المواجهات الأخيرة بين الجهاد الاسلامي و إسرائيل.

قبل اسبوع كان المبعوث الأممي تور وينسلاند قد حذر من تصعيد عسكري وشيك بعد فشل جهود الوساطة التي قادها خلال زيارته الأخيرة الى المنطقة بعد أن فشلت مساعيه في اقناع الجانب الاسرائيلي بضرورة تقديم تسهيلات ذات طابع اقتصادي تخفف من وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعانيها قطاع غزة، لم تكترث حكومة نتنياهو لتحذيرات ويسلاند رغم التحذيرات المصرية وصدور تقارير أمنية اسرائيلية تؤكد أن التحركات التي وقعت بالتزامن مع الأعياد اليهودية على حدود غزة تحمل اشارات واضحة بأن حماس تستعد للرفع من وتيرة التصعيد و تضع المواجهة العسكرية كخيار لا مناص منه في حال استمر الاحتلال بخنق القطاع وهي سياسة لا تكتفي فقط بالتضييق على حماس بل تدفعها الى مواجهة سخط شعبي ناتج عن سوء الأحوال وغياب الافاق والحلول.

يحاول السياسيون وقادة المؤسسة الأمنية في اسرائيل وصف ما وقع في الساعات الأولى من هجوم كتائب القسام على مستوطنات غلاف غزة على أنه هجوم مباغت وسريع لم تتوقعه الأجهزة الأمنية بهذا الشكل، لكن في الحقيقة فقد سعى نتنياهو ومن معه خلال الأسابيع الأخيرة الى برمجة المواجهة بتقديمهم كل الأسباب التي تدفع بحماس الى خيار المواجهة العسكرية وذلك من خلال ضربهم للركائز التي يقف عليها استمرار الهدنة، أراد لهذه المواجهة أن تخمد لهيب الاحتجاجات التي لا تهدأ ضد خطة اضعاف القضاء في الشارع الاسرائيلي وأن تأخد الهواجس الأمنية الأولوية عن المطالب الأخرى بما فيها اعادة احياء ملف الرشاوى الموجه ضده الى القضاء.

احتاج نتنياهو الى مواجهة ينهيها بنصر يسكت به أبواق يايئير لابيد وبيني غانتس في المعارضة، لكنه أخطأ التقدير بتصوره لمواجهة اعتيادية تنتهي دائما بأقل الأضرار من الجانب الاسرائيلي بينما تساهم في اضعاف قدرات حماس وتحمْلها تبعات التصعيد الذي سيلقي بضلاله على أحوال الناس المعيشية، في الجهة المقابلة استشعرت أجهزة حماس الأمنية حالة التذمر والسخط الشعبي العام لما آلت اليه الأوضاع، و اصبحت أمام وضع يستوجب عليها التحرك بعد أن انتهت صلاحية الهدنة السابقة بوقف حكومة نتنياهو منح المزيد من التسهيلات الاقتصادية التي تحول دون انهيار الوضع في قطاع غزة.

اليوم وبعد أن كانت كل الأمور توحي بشلل تام في صفقة تبادل الأسرى أصبح لحماس موقف تفاوضي مريح بعد أسرها لعشرات الجنود والعائلات الاسرائيلية في حين ستجد اسرائيل نفسها مضطرة الى تنفيذ تنازلات كبيرة تصل الى حد "الاذلال"، ربما كان بالامكان تفاديها لو أن حكومة نتنياهو قد عملت على تثبت التهدئة وتجاوبت مع مطالب حماس في صفقة وفاء الأحرار 2، و هنا ستجد الاصوات المعارضة ما يمكنها من تحميل نتنياهو المسؤولية الكاملة عن هذا الاخفاق الأمني وعن كل الخسائر المادية والبشرية التي تعرضت لها اسرائيل وعن الصورة المهزوزة التي ظهر بها جيش الاحتلال في تعامله مع هجوم حماس في قلب اسرائيل، وقد لا نستبعد بعد أن تضع الحرب أوزارها أن ترتفع الاصوات المطالبة برحيل نتنياهو ومن معه بعد اساءتهم لصورة الجيش ولمنظومته الدفاعية وبعد تسببهم في أسوأ حدث أمني عرفته اسرائيل منذ 50 سنة.

في مرحلة أولى قد تكتفي اسرائيل باضعاف قدرات حماس من خلال تكثيف ضرباتها الجوية واستهداف رؤوس قيادات عسكرية وسياسية داخل بيت الحركة، ولا شك أنها تعمل على تحويل قطاع غزة الى منطقة منكوبة وستمنع دخول جميع أشكال المساعدات المالية بما فيها القطرية كنوع من العقاب الجماعي وهو ما سيؤدي الى أزمة غير مسبوقة في تاريخ القطاع، كل هذا من اجل التقليل من قيمة ما حققته حماس خلال اليوم الأول من المواجهة، اما المرحلة الثانية فمن غير المستبعد أن تنفذ فيها اسرائيل هجوما عسكريا مباغتا على قطاع غزة تتركز مهمته ابعاد الخطر عن المستوطنات الاسرائيلية من خلال انشاء منطقة عازلة داخل أراضي القطاع وهو ما يسمح بمراقبة التحركات ووتحييدها قبل وصولها الى منطقة السياج الحدودي.

ربما نجحت حماس الى حد ما في رفع شعبيتها على الصعيد العربي وبدى ذلك واضحا على منصات التواصل الاجتماعي التي غصت بمشاعر الفرح والتضامن لكنها قدمت بتلك الصور التي بثها اعلامها العسكري أثناء اقتحام مستوطنات غلاف غزة ما يدعم تهم الارهاب وما يدعم الرواية الاسرائيلية التي تبرر لجوءها الى العنف في سياستها الأمنية لحماية وجودها المستهدف من حركتي حماس والجهاد الاسلامي واذرعهما المسلحة، في الواقع لقد وضعت مشاهد أسر أطفال ونساء مدنيين اسرائيل أمام المجتمع الغربي في حالة دفاعية ستسمح لها بالانتقال الى الوضع الهجومي وبتنفيذ انتقام جماعي في غزة دون أن تخشى أن توجه لها أصابع الاتهام بتنفيذ جريمة حرب.