تتنقل في هذا الشارع في بيروت قابضًا على قلبك في يدك، إذ قد تمرُّ منه حيًّا وقد لا تمرّ...

وما يقتلك فيه أمران: جمال المعروضات في الواجهات التجارية، وزخمُ الدراجات النارية! وللدراجات النارية في شوارع بيروت قصة أخرى تنسجها الفوضى، وغياب القانون، وغياب الانتماء والمواطنة!

في بيروت ومنها، وأنت على طريقك إليها حتى على الطريق السريع، تُسابقك الدراجات النارية وكأنَّ بينها وبين سيّارتك ثأرًا قديمًا... دماءً لم ترتح تحت ثراها، تصرخ ثأرًا من السيارة ثأرًا!

من دراجة نارية لشخص واحد أو شخصين، تحوّلت الدراجات النارية إلى باصات صغيرة، تحمل على ظهرها عائلة بكاملها قد يصل عديدها إلى تسعة أشخاص! تسعة لم يبق منهم في البيت أحد؛ فالرضيع معهم على ظهر الدراجة، والطفل، والفتيان، والابنة، والأم والأب، والخالة أو الزوجة الثانية. تسعة لم يضع واحد منهم خوذة واقية، وحزام الأمان عبارة عن يد راشدة تحيط خصر من لم يسترشد بعد.

المهم أنَّ الدراجة النارية أعفت نفسها من كل القوانين؛ فقائدها طفل لم يُنهِ بعد سنين مراهقته، أو شاب استفحلت فيه رعونة الشباب وفتْلُ العضلات فعَامَ على قوانين السير والسلامة كلها... يتجاوز كلَّ ما يسير عن جهة اليمين ولو كانت السيارة قد أعطت إشارة الالتفاف على اليمين، يأتيك كعاصفة يوقفك عن التفافك الذي يحق لك به استنادًا لقانون السير، وهو يُمْطرك بعبارات أقلها يهين، خاصة إذا كان قائد السيارة امرأة... أو يهبط عليك من السماء كخبط عشواء لا تعرف بعده من أين إلى أين المسير!

قائد الدراجة هذا فيه حماسة من رسم خطط الحرب مع خالد بن الوليد، وانتصر مع صلاح الدين في معركة حطين. حماسة تصوّر له الشوارع كافة ميادين مفتوحة لالتفافه عن مساره ساعة يريد، ولقيادة دراجته على عجلة واحدة، وللقيام بحركات بهلوانية لو رآها الشيطان لخرَّ على ركبتيه يركع لله ويؤمن معتزلاً الشرَّ والأذية!
قائد الدراجة هذا ينظر بعينين لا ترى من الألوان الأحمر والأصفر، ولا تعترف بصفارة بوليس السير، ولا بإشارة يده التي تدعو إلى التوقف لمرورٍ مقابل، فالألوان كلها عنده خضراء، تعطيه جواز مرور لا يعترف بتقاطع، ولا بمفرقٍ، ولا بمنطقة مرور مدارس، ولا بأحقية مرور ولا ولا ولا...!

قائد الدراجة هذا جبروت خلا قلبه من الخوف! يندفع في قيادته الدراجة غير عابئ بحادث يمكن أن يسببه لنفسه والبلوى التي يبلو بها الآخرين، لأنَّ القانون لا يردعه ومثَله في الحادث مثل المُشاة لا الآلة، وإنْ كان هو المُخطئ...

والمبكي المُضحك، أنَّ سائق الدراجة عندما يرى مجالاً لا يتسع حتى لمرور «أوليف» زوجة «بوباي» الشهير، يهبُّ بدراجته وبوقه بسرعة صاعقة ليمر منه، وكأنَّ مروره من خرم الإبرة هذا مسألة حياة أو موت، ولا مجال للتراجع...

صبره نفذ!... وما عليك أيتها السيارة إلاَّ أن تتقلّصي لكي يتمكن صاحب السعادة قائد الدراجة النارية من المرور...

ولا تنتهي المفاجآت هنا، فالصدمات الإيجابية والسلبية تتوالى، لا سيّما عندما تندفع الجموع على الدراجات، وتقف أنت وسيل من السيارات خلفك لفترة من الزمن، لا تتمكّن فيها من الحراك من مكانك، لأنَّ دفق الدراجات النارية عن يمينك ويسارك وأمامك، تمنعك من أن تتقدّم بدولاب سيارتك إنشًا واحدًا... ومع ذلك تراك تدبُّ دبيب نملة، علّك تتمكن من اختراق هذا البناء المتكاتف بين الدراجات التي تكاد تختفي تحت وطء صاحبها، إلى تلك التي يبدو عليها صاحبها كنملة فوق جبل!

تدبُّ دبيب نملة لو رأتك، لوبختك وأنهت عندك صلاحية هذا التشبيه!

والأمر لا ينتهي هنا، فمع الأزمة الاقتصادية التي دفعت بمن لا يريد حتى إلى اقتناء دراجة نارية، صارت الأنثى في القيادة شريكة للرجل والطفل والمراهق والعائلة، تتوسّل الدراجة للذهاب إلى العمل، أو إلى الجامعة، أو إلى السوق... وهذا أمر جميل، خاصة إذا لك تكن القيادة أنثى وأسلوب القيادة لخارج عن القانون!

المهم أنَّ من يتجوّل في الشوارع في بيروت إنَّما سيُدهش بدراجات نارية هي في الحقيقة باصات صغيرة بينها وبين كل السيارات ثأر عتيق، وبقوانين لا تُبصرها الدراجة النارية ولا تُراعيها - فلبنان وإن ساد فيه الشيطان لا يسود فيه القانون، والدراجة عصيٌّة على كل القوانين!

من طرابلس إلى الناقورة، ومن عنجر إلى البحر، سيارة تخشى شرارة من نار دراجة يقودها طفل، أو غاضب، أو مستعجل، أو كائن يرى أنَّ القوانين حبر على ورق، وأنَّ السلامة مجرّد اسم دخلت عليه «ال» التعريف، وأنَّ «القيادة ذوق وأخلاق» شعار طمره الركام تحت طبقات الفساد والفوضى واليأس والاستهتار والرعونة والغضب والأنانية!

من طرابلس إلى الناقورة، ومن عنجر إلى البحر، وفي كل شارع من شوارع بيروت، سائق سيارة أقرب إلى أن يكون أسير مزاج دراجة نارية غاب عنها القانون وحسُّ المسؤولية...

من طرابلس إلى الناقورة، ومن عنجر إلى البحر، وفي كل شارع من شوارع بيروت، سائق سيارة تُتلفُ أعصابَه الطريقُ في بلدٍ لم يرحمه أهلُه فغابتْ عنه الرحمة...

ومن الدراجة النارية إلى «الرابيد» وسيارات النمرة الحمراء أو السيارات العمومية، مغامرات تنسجها هذه الآلات لتجعل يومك «فوريوس بطيء» أي «Furious» ولكن « Not fast» إلاَّ في تنبيه حواسك حتى تلك التي تتجاوز الحاسة السادسة والسابعة ما بعد الألف!

ففي كل شارع من شوارع لبنان، سائقُ سيّارة يريد حشر نفسه في خرم إبرة بين سيارتين، أو بين رصيف ودرّاجة، أو بين رصيف وسيارة، وربّما حتى تحت جناح شاحنة يحشُر نفسه كضيف غير مدعوّ إلى حفل زفاف...

وفي كل شارع من شوارع لبنان، وفي أيِّ شارع من شوارع بيروت سائق سيّارة يجهلُ إذا كان سيعود قطعة واحدة إلى بيته!

من طرابلس إلى الناقورة، ومن عنجر إلى البحر، وفي كل شارع من شوارع بيروت، سائق ميتٌ هو خلف المقود إلى أن يصل العتبة التي يريد، وسائق أشوس تحلّل من القوانين وآداب القيادة يقبضُ على فياصل أوردةِ الآخرين يسجنُ لهم في الصدر النَّفَسَ حتى إشعار آخر... وبيروت التي كانت في زمنٍ ماضٍ مدينة الحياة، صارت مدينة ً الموت فيها إبداعات لا تُجدِبُ... فمتى الرأفةُ التي ننتظر، متى؟