وصل الأب بصحبة ابنه المتزوّج حديثاً، إلى منزل الأخير، منغمسانِ في تبادل الأحاديث ومناقشة المواضيع العائلية المختلفة. تجوّل الأب متفحّصاً غُرف المنزل ثم جلس مُطرقاً غارقاً في التفكير.
بعد تناول وجبة الغداء طلب الأب من زوجة ابنه فنجاناً من القهوة، فأجابته:
لقد نَفَدَ البُنّ يا عمي .. سأعدّ لكَ قدحاً من الشاي (وانصرفت سريعاً) !
نَظَرَ الأب شذراً لابنه فشعر الابن ببعض الخجل .. قبل أن يقطع الأب الصمت:
أهذه من اخترتَها؟ وكنتَ متأكداً من أنها تناسبك؟ .. ألم تلاحظ على نفسك أنك لستَ سعيداً معها؟
أجاب الابن مُدافِعاً: وما دخلُ سعادتي معها بالقهوة والشاي يا أبتِ !!
ردّ الأب بنبرةٍ حادة: إن انعدام ذوقها في الحديث معي أمرٌ آخر، لكن عدم اهتمامها بنظافة المنزل وإهمالها لك تماماً على المائدة ومقاطعتها لحديثك عدة مرات .. أمورٌ تنُمّ عن سوء السلوك وغياب التقدير ! هل تعتقد أن بديهتي أصيبت بالوَهَن؟ إن قوة الملاحظة يا بُنيّ تنمو مع السنين .. أنا أعلمُ تماماً تعابير وجهكَ عندما تكون سعيداً .. وأجيد قراءة الحزن والخذلان عندما يستبيحان وجهك أيضاً ..
أطلق الابن تنهيدةً عميقة وأغمض عينيه لبرهةٍ ثم قال بصوتٍ مرتجف: أعلم حجم خطئي يا أبي، أذكر كم مرة نبّهتني لأهمية أن تكون زوجتي من اختياري، وأن هذا الاختيار الأهم والأشد تأثيراً في حياتي، لكن ضغط أمي اليومي بتعجيل الزواج أرهقني ! لقد اختارت لي هذه الفتاة وأرغمتني على الارتباط بها تحت مظلة بر الوالدين وأنها تعلم تماماً كم هي مناسبة لي وأنها ستسعدني، وعندما أخبرتها بتعاسة حياتي الزوجية معها أكّدت لي أن هذا يحدث في البدايات دوماً مع كل الناس .. وأن الحل يكمنُ في الدعاء، كان تمطرني بسيلٍ من الأدعية كل يوم وكنتُ ألتزمُ بها بالفعل .. لكن الأمور كانت تسير نحو الأسوأ .. لكنها لم تقتنع أنها اختيار خاطئ أبداً .. كانت تقول ..
قاطعه الأب بصوتٍ دافئ: لا تحبرني عنها .. أنا أحفظ كلامها ومنطقها عن ظهر قلب، لن تعترف أمك بخطئها أبداً، لكن دعنا نركّز على مشكلتك يابنيّ، أعلم أن المشكلة ليست ذنبك .. لكن الحل مسؤوليتك .. أنتَ الآن شخص ناضج مسؤولٌ عن اختياراته وقراراته.
ارتسمت على وجه الابن ابتسامةٌ يُشرق فيها بعض الأمل، وقال: كلامك يشرح صدري يا أبي، أرجوك ساعدني بالمشورة، أشعر بتشويشٍ كبير.
عدّل الأب جلسته قائلاً: أحتاج للقهوة حتى أكمل الحديث ...
انفجر الابن ضاحكاً وأجاب: طلباتك أوامر .. 10 دقائق سأعود لكَ بالقهوة المفضّلة لديك.
وعندما حَضَرَت القهوة .. ارتشف منها الأب رشفتين .. وبدا كأنه يرتّب أفكاره للحديث ..
ثم قال: كي تكون سعيداً يجب أن تدرك ما يُناسبك، ثم تسعى لتحقيقه .. تبريراتك للوضع الحزين الذي تعيشه .. ليست أهم من بحثك عن سعادتك الحقيقية ! الحزن يا بنيّ يقصف العمر ويجذب الأمراض .. والأدهى والأمَرّ أنه يُورّث أيضاً ..
أجاب الابن مندهشاً: يُورّث !! كيف ذلك ؟
قال الأب: هل رأت عائلة تعيسة تُنجبُ أبناء سعداء ؟ مين أين ستستدلّ السعادة عليهم ؟
بَدَا الابن في غاية التركيز والإنصات .. فأكمل الأب:
الدعاء يا بُنيّ مهمٌ جداً .. لكن في مكانه الصحيح .. الدعاء يدعمُ الواقع الفطريّ للأشياء .. لكنه لا يُغيّر الواقع الأعوج .. هل سمعتَ عن رجلٍ تاه في صحراء قاحلة فدعا ربه فانفجرت الأرض ينابيعاً ؟ لقد زرقنا الله العقل كي نُحسن توظيف الأمور في مكانها الصحيح. زوجتك إنسانةٌ طيّبة .. وأنت إنسانٌ طيّبٌ أيضاً .. لكنّكما لم تُخلقاً لبعضكما البعض ! معيشتكما المشتركة تعاسةٌ لا ذنب لكم بها، ويجب ألا تستمر !
سَكَتَ الأب مُحدّقاً بالابن .. الذي لم ينبس ببنتِ شفة .. واكتفى بتعزيز طاقة الإنصات ..
أكمل الأب: من حسن حظّكما عدم الإنجاب .. طريق الحل واضحٌ أمامكم .. اسأل زوجتك (هل أنتِ سعيدةٌ معي) ؟ وأخبرني الجواب ..
قال الابن: ألا يمكن أن يضايقها ذلك؟
أجاب الأب: إنه مجرّد سؤال .. لكي تكون تحصد السعادة يا بُنيّ يجب أن تزرع الجرأة والحسم .. سعادتك الزوجية محتومة بإنسانة تشبهك في تكوين الروح والفكر .. قد تختلف معك في العديد من الصفات .. لكن يجمعكما شغفُ الحديث .. من تستمتع بحديثك معه كل يوم هو بكل تأكيد .. شريك حياتك المثاليّ.
أجاب الابن: تسلسل أفكارك المنطقي رائعٌ جداً يا أبي .. لكني متخوّفٌ من سؤالها كثيراً ..
قال الأب بلهجةٍ يشوبها الحزم : لقد أنجبتُ رجلاً قوياً .. لا أعتقد أنه سؤالاً يخيفه ..
استيقظ الأب في صباح اليوم التالي ليجد فطوراً فاخراً بانتظاره .. وعندما جلس للمائدة ظهر ابنه قادماً من المطبخ حاملاً "ركوة" القهوة التي يفضّلها أباه .. مبتسماً ابتسامةً تنمّ عن سعادةٍ فائقة ..
بادر الأب بالسؤال: سألتها أليس كذلك؟ ويبدو أن جوابها أسعدكَ كثيراً ..
جلس الابن وقال بصوتٍ متهدّجٍ من الفرح: جوابها كان صاعقاً بالنسبة لي .. لقد سألتني عن سبب السؤال فلم أجد إجابة .. ثم طلبت مني وعداً بألا أغضب مهما كان جوابها .. ثم أخبرتني أنها لم تشعر بالانسجام معي يوماً واحداً وكأني أخاها ! لكنها لم تجد طريقة تخبرني فيها ذلك كيلا أغضب .. وأيضاً لم يكن لديها جرأة طلب الانفصال ! أخبرتني أني شخص طيب لكن حياتها فارغة معي وهذا أشعرها بالحنق والعصبية وأخرَجَ أسوأ مافيها ! سألتها عن رأيها في الانفصال المتحضر لمصلحة جميع الأطراف .. فصُدِمت بأنها مستعدة لذلك فوراً وسعيدة به .. وصارحتني بأنها لا تُكنّ لي أي ضغينة .. وأنها تتمنّى لي الخير كلّ الخير !!
اغرورقت عينا الأب بلمعان الدموع .. وبصوتٍ حنون تكاد المحبة تُقطر منه .. قال: لا أحد يحبّ لك الخير كأبيك .. أمّك تحبّ لك الخير أكثر .. لكن بطريقتها التي أضرّت بك .. كانت تظنّ الدعاء يُصلح أخطائنا .. بينما الدعاء يمنحنا قوةً من الله لنصحّح الأمور حسب حكمة عقولنا .. إياك أن تخبرها شيئاً الآن .. بعد أن تنهي جميع إجراءاتك .. سأتوّلى أنا إخبارها بطريقتي الخاصة كيلا تغضب ..
انكبّ الابن على يدي وقدمي أبيه يقبّلهما بُحرقةٍ وجنون ..
قال له الأب: كم أنا سعيدٌ برؤية وجهك سعيداً منتعشاً بالفرح .. ما رأيك أن نشرب القهوة ؟
ارتشف الابن رشفةً واحدة .. ثمّ أغمض عينيه محاولاً استيعاب الضجيج في دواخله ..
فسأله الأب: كيف ترى طعم القهوة الآن ؟
أجاب الابن: طعمٌ حقيقيّ للحياة .. أشعرُ أني وُلدِتُ من جديد .. وأني سأعيش مائة عامٍ سعيدة .. ولو قضيتها كلها في خدمتكَ وتقديم الشكر والامتنان لكَ يا أبي .. لن أفيك حقّك !!
ابتسم الأب ووضع يده على كتف ابنه بمحبةٍ وحنان قائلاً: أريدكَ مُنتجاً في الحياة .. مانحاً للقيمة والسعادة لمن حولك .. لا تنسَ الأدعية التي علّمتكَ أمك إياها .. لم ثق أن الدعاء لن يبني الأمم أو يصنع الحضارات وحده .. يجب أن نكون أسباب سعادةٍ تمشي على الأرض .. كي يستجيب الله دعاءنا .. ويُسعدنا.