عصفت أدوات التكنولوجيا، التي تفجّرت ثورة تطبيقاتها وازدهرت في الأعوام الأخيرة، بالمشهد العالمي بكل تفاصيله وجميع ابعاده وعلى نحو غيّرت، في ثنايا الانغماس به، من أنماط السلوكيات التي يتعامل بها الانسان مع العالم، ورسمت معالم جديدة لخرائط مجريات الاحداث، بشكل لم نشهد له نظير في تاريخ البشرية.

هذه التغييرات الجذرية، وعلى هذا الصعيد التكنولوجي بالخصوص، لم تستثنِ مساحة او تستبعد مجالا من مجالات الحياة دون التأثير به، او ان يكون للرقمنة وتمظهراتها دور فيها إيجابي ام سلبي، دائمي ام مؤقت، كبير ام صغير، واضح ام مستتر، سواء اعترفنا بذلك ام أنكرنا ولم نقر به.

فالأحداث التي أعقبت الهجوم الذي شننه المقاومة الفلسطينية على اسرائيل، قد سلطت الضوء مرة أخرى على أحد الموضوعات المهمة والجوهرية في العصر الرقمي، وهو دور المنصات الرقمية ومواقع التواصل في الصراعات والحروب والأزمات التي تندلع في العالم، وما يمكن ان تقوم به، الفضاءات الافتراضية، لتخفيف حدة التوتر وحماية الأبرياء ومنع التحريض وتأجيج الاستقطابات السياسية والدينية والمذهبية والقومية.

حيث بعد دقائق من الهجوم، وما اعقبه من تصعيد إسرائيلي همجي، غرقت مواقع التواصل المختلفة بملايين المنشورات والصور ومقاطع الفيديو التي تتعلق بالموضوع، وبسرعة مذهلة فاقت أي حدث اخر في السنوات الأخيرة، ما أدى لأرباك مواقع التواصل وادخالها في نفق المعضلة "القديمة الجديدة" التي تتعلق بطريقة التعامل مع هذا الكم الهائل من المنشورات، وكيفية مواجهة التدفق الاستثنائي للمعلومات والمواد على هذه المنصات، وتمييز ما هو مناسب ويتسق مع معاييرها او منتهك لها، بالإضافة الى قدرتها على معالجة المنشورات بطريقة موضوعية ومهنية ليس فيها محاباة تجاه احد طرفي النزاع.

وكما هو متوقع، بدأت شركة ميتا، عبر تطبيقاتها فيسبوك وانستغرام، بأول إجراءاتها التعسفية تجاه المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية، من خلال حظر هاشتاك طوفان الاقصى تحت ذريعة ان بعض المنشورات الذي يتضمنها مخالفة لمعايير المنصة وتتضمن عنفا من نوع ما، وقد جاء قرارها هذا قبل أي تحرك من أي منصة رقمية أخرى، في دليل أخر يُضاف لرأينا السابق في ان شركة ميتا ومنصاتها المعروفة، تتعامل بطريقة لا تخلو من الانحياز في مثل هذه القضايا.

ومن اجل ان تُسارع بقية المنصات في حظر المحتوى الفلسطيني والمؤيد له، او على الأقل تضييق الخناق عليه، بدأ الاتحاد الأوربي حملة ضد هذا النوع من المنشورات، وقاد الحملة مفوضها للشؤون الرقمية تييري بريتون الذي أرسل رسائل خاصة لمدراء ورؤساء منصات فيسبوك واكس وتيك توك ويوتيوب وبلو سكاي، مارك زوكربيرج، وايلون ماسك، وشو زي تشو، وسوندار بيتشاي، وجاك دورسي على التوالي، حذرهم فيها من المنشورات المؤيدة لحركة حماس وطالبهم بضرورة الامتثال لقانون الخدمة الرقمية الجديد في الاتحاد الأوربي والا سيواجهون بغرامات كبيرة تصل الى 6% من إيرادات الشركة السنوية كما تطرقت لذلك بالتفصيل في مقالي "معركة اوروبا الجديدة ضد المنصات الرقمية".

مطالبات الاتحاد الأوربي للمنصات كانت تتعلق بقضيتين هامتين، محاربة المحتوى "الذي تصفه هذه الدول بالإرهابي" وما يتعلق به من منشورات من جهة، ومواجهة المعلومات الكاذبة والاخبار المضللة التي تنتشر في مثل هكذا احداث عالمية من جهة ثانية، ومن وجهة نظري ان التركيز كان على مواجهة المحتوى الفلسطيني وسرديته التي تُقدم من خلال المنصات على نحو اكثر من التركيز او الاهتمام بالأخبار الكاذبة او على العنف بشكل عام.

ومع تشابه ردود أفعال المنصات تجاه مطالب الاتحاد الأوروبي الا ان هنالك بعض المواقف التي ينبغي لنا التعرض لها في هذا السياق، والتي لم ترضخ فورا للمطالب، فإيلون ماسك، رد، بادئ ذي بدء، على الاتحاد الأوربي بمنشور، اكد فيه ان سياسة اكس هي أن يكون كل شيء مفتوحا وشفافا، وهو المنهج الذي اعرف بان الاتحاد الأوربي يدعمه، ما لاقى صدى إيجابي عند المساندين للقضية الفلسطينية والمتعاطفين معها الذين اكد الكثير منهم في البداية وجود حرية في نشر بعض الاخبار المتعلقة بغزة، لكن بعد ساعات من هذا المنشور، تفاجئ المستخدمون واصيبوا بخيبة امل، بما كتبته المديرة التنفيذية لمنصة اكس، ليندا ياكارينو، حيث اشارت في منشور لها، تضمن رسالة طويلة للاتحاد الأوربي، الى ان منصة اكس قامت بحذف الاف المنشورات ومئات الحسابات التابعة لحماس، وهو، الموقف الذي يكشف، من وجهة نظري، عن حجم الضغوط التي مارسها الاتحاد الأوربي ضد منصة اكس والتي دفعت ايلون ماكس الى التفكير، كما تداولت الاخبار غير الرسمية، في إيقاف عمل المنصة في منطقة الاتحاد الأوربي للتخلص من ضربات السيف الذي يشهره الاتحاد الأوروبي ضد المنصات تحت اسم قانون الخدمة الرقمية.

واما الموقف الثاني، الذي يستحق الوقوف عنده والتطرق له، على نحو تفصيلي، فهو موقف مؤسس منصة تيليغرام بافيل دوروف الذي اراه مغاير ومختلف تماما، ويحمل في طياته موقفا جديدا يتعلق بالتعامل مع المنشورات التابعة لحركة حماس، حيث وضح دوروف رأيه في منشور له في قناته على تيليغرام، بتاريخ ١٣ من هذا الشهر، وهو نفس تاريخ اصدار شركة ميتا بيانهم التفصيلي حول الاحداث، فأشار الى ان منصة تيليغرام تحذف في كل يوم ملايين المنشورات الضارة، لكنه أضاف بانه قضية المنشورات المتعلقة بالحروب تكون غير واضحة تماما.

والملاحظة الاخيرة في هذا التشخيص دقيقة الى حد كبير، اذ ان المنشورات التي ترتبط او تنتشر في أوقات الصراعات والحروب لا يمكن التعامل معها على نحو يسير، ولا تحديد مضمونها ومعناها بصورة مباشرة لا تقبل التأويل والتفسير، ولذا فان خوارزميات المنصات التقليدية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي في فحص المنشورات، ستفشل في تحديد المقصود من المنشور، وتُخفق، بالتالي، في اتخاذ موقف صائب منها.

ويضيف دوروف، في منشوره المهم: في وقت سابق من هذا الأسبوع، استخدمت حماس منصة تيليغرام لتحذير المدنيين في عسقلان ومطالبتهم بمغادرة المنطقة قبل ضرباتها الصاروخية، فيسأل: هل سيساعد إغلاق قناتهم في إنقاذ الأرواح، أم أنه سيعرض المزيد من الأرواح للخطر؟

هذا السؤال الذي طرحه دوروف، بذكاء، يهدف لتوضيح، او تبرير، وجود قنوات المقاومة الفلسطينية في منصته، وهو منطق لا نجده في معايير وقواعد منصات التواصل، اذ ان وجود قناة حركة حماس، على منصته، ربما قد يساعد المدنيين ممن يطلعون على بياناتهم، على تجنب الأذى والضرر، وبذلك تكون هنالك فائدة من وجود هذه القناة على المنصة، لان عدم وجود القناة يعني عدم تنبيه الناس مما سوف يحدث في المعارك.

ويكرر، في نفس المنشور، رأيه بان التعامل مع هذه المنشورات، في فترات الحروب والأزمات، هو قضية معقدة تحتاج لدراسة شاملة وتدقيق عميق يأخذ بعين الاعتبار الاختلافات بين مواقع التواصل الاجتماعي المتنوعة.

ولا ينسى دوروف، كما هي عادته، ان يوجه سهام نقده لمواقع التواصل، فيتحدث عن دورها السلبي في نشر الاخبار الكاذبة، ويرى ان خوارزمياتها تقدم اخبار ومنشورات للمستخدمين حتى من الصفحات التي لا يتابعونها في حين ان تيليغرام لا يقدم لمستخدميه الا المعلومات والاخبار من القنوات التي يتابعها، وبذلك لا تساهم منصته في نشر الأكاذيب والمنشورات التضليلية.

وبالرغم من انني اعتقد بان الأكاذيب والتضليل في منصة تيليغرام لا تختلف عن باقي المنصات، وان استجابة المنصة للطلبات ضعيفة عموما، ومعدومة أحيانا، الا ان وجهة نظر دوروف حول قضية وجود قناة حماس في منصته جديرة بالتأمل والنقاش وطرحها مع بقية المنصات التي لا تسمح لهذه المنظمة بالتواجد لديها وتحظر كل منشوراتها سواء كانت منشورات إخبارية او غيرها بعد ان صنفتها بانها منظمة خطرة او إرهابية.

ان الهجوم على إسرائيل، وما اعقبه من رد "جنوني" تخطى حدود المعايير الإنسانية في الحروب، قد خلق فضاءا أعاد للرأي العام مناقشة موضوع تعامل المنصات مع المنشورات التي لجأ اليها الملايين للتعبير عن غضبهم مما يحدث، او البحث عن معلومات عما يجري، ما تسبب في تخبط العديد من المنصات وعجزها في إيجاد طريقة مثلى للتعامل معها، فانحازت لطرف معين في الصراع على حساب الآخر حينا، وحذفت كل المنشورات المتعلق بالحدث بدون تمحيص لفحواها حيناً آخر، في مؤشر جديد ودلالة، نكرر على معناها دائما، وهي عدم قدرة مواقع التواصل على التعامل بحيادية وبدقة مع المنشورات التي توجد على منصاتها، بصورة عامة، والمنشورات المتعلقة بالحروب والصراعات بصورة خاصة.

وبرغم كل التضييق ورسائل التهديد والوعيد الذي أطلقها الاتحاد الأوروبي ضد المنصات من جهة ومعايير المنصات وقواعدها التي ترسم خرائطها وتسيطر عليها شركة ميتا من جهة ثانية، فان سردية ما يتعرض له الفلسطينيين في غزة لم يتم خنقها كليا، فما زالت تجد لها مكانا في الفضاء الافتراضي، في منصة اكس بحدود معينة، و تيليغرام على نحو اكبر، وبحرية أوسع، تذكرنا، في نهاية المطاف، بوجود نظام عالمي رقمي جديد، تسيطر عليه شركات تقنية كبرى تتحكم بالرأي، وتسيطر على التفكير، وتكبت المشاعر، وتُجهض صرخات المظلومين من شعوب الأرض المسحوقة.