من أين أبدأ ؟ من مدينة الألف مئذنة؟ أم من بلاد الألف قصة؟

خلال المرتين التي زرت بها القاهرة، كانت دوما تصدف زياراتي قصيرة جدا، بمعدل يوم واحد أي ما يقل عن أربع وعشرين ساعة، لكني أنجح في كل مرة في تحديد أهدافي دون أن أضيّع نفسي.

استثمرت زيارة الأولى إلى مصر، والتي كانت في معظمها زيارة عمل إلى الإسكندرية، منذ ثلاثة عشر عاماً، لأكرسها فقط لمشاهدة أهرامات مصر، المتحف والقليل من خان الخليلي دون أن أعي حقيقة على كنوز مصر القديمة. أذكر أنى سرت في شارع المعز بالله دون أن أدرك أنه يحوي على جامع الحسين، أو أنه يقود إلى جامع الأزهر، ودرب الأحمر الخ.

في زيارتي الحديثة، كان الهدف الذي وضعته نصب عيني هو زيارة "بيت يكن" بيت أجدادي العثمانيين في الدرب الأحمر في حارة تسمى بحارة "اليكنية".. أردت استرجاع القليل من روحي على اعتبار أنني لم أتمكن من زيارة مدينتي حلب لفترة طويلة، والتي لا تقل قيمةً وجمالاً عن القاهرة من حيث الحركة المعمارية والتاريخ المشترك.

أردت أيضاً أن أتعرف على التاريخ المملوكي في مصر والذي تشهد عمارته العريقة عليه خصوصا الجوامع. وفعلتها حقاً. لقد زرت جامع الإمام الرفاعي، وجامع السلطان الحسن بن قلاوون، وجامع الإمام أحمد بن طولون الذي أنشأ مئذنة فريدة من نوعها شبيهة بالمئذنة الملوية في سامراء في العراق.

تعلو ضمن منطقة الجامع الإمام الحسين أصوات الأغاني الشعبية التي تتراشق في كل مكان، وتوازي في أصواتها أصوات التلاوات القرآنية والدينية من الداخل. ترى على ظهر الجامع دكاكين عدّة تعرض ثياب نسائية وبدلات للرقص، بينما على زوايا الجامع، ترى دكاكين أخرى تعرض حجابات وشالات للواتي توددن الدخول إلى مقام سيدنا الحسين. القهاوي منثورة على طول خان الخليلي، بين عزف عود، وبين نقاشات سياسية حادة حول الوضع الراهن.. ليس صعباً تخيّل المشهد فهو مطابق للمسلسلات المصرية، الكل في يده اليسرى "كاسة شاي" وفي يده اليمنى السيجارة المصرية "المعروفة" التي تجدها لدى غالبية المصريين من الطبقة العاملة.. الحديث عن فلسطين كان مهيمناً.. لقد سمعت أحد الشباب المصريين يقول: "الرياض عاوزة تكون زي مصر ومش عارفة ازاي؟".. يبدو أن هناك تنافسا بين القاهرة والرياض حول زعامة العالم العربي! لقد صوّرت ذاكرتي البصرية الكثير من المشاهد هنا وهناك، لو مزجتها سويّاً لكانت بانوراما ساحرة وفي غاية التناقض.

لذلك، إذا طلب مني تعريف مصر سأقول: هي الفخامة والعظمة.. هي العتيقة والمحروسة.. وهي التشوه والعشوائيات. المصربين، هم اللطفاء والطيبين.. وهم أيضا النصّابين والانتهازيين لكن للأمانة نصبهم "شَرَبات" كما يقال في العامية المصرية.. أي ممزوج بالكثير من خفّة الدم.

وعلى فكرة، يبدو أنّ هذا كله في الجينات.. حتى الفراعنة لم يسلموا من نصب شعوبهم لهم في القبور.. عندما كنت في الأقصر التي قضيت فيها ثلاث ليالي، حدّثني المرشد السياحي أن سبب وجود "وادي الملوك" و"وادي الملكات" وهو المكان الذي يحوي على قبور ملوك الفراعنة منذ أكثر من ألفي سنة قبل الميلاد تحت الأرض، هو بهدف منع اكتشاف أماكن دفنهم من قبل عامة الشعب الذين اعتادوا على سرقة المعادن الثمينة. إنّ دفن ملوك الفراعنة كان يخضع آنذاك لطقوس خاصة، مثل التحنيط.. ثم تلف الجثة المحنّطة بالكتان الأبيض، الذي يرصّع بالذهب والألماس.

لقد تأثرت جدا خلال اقامتي بالاقصر بفكرة أنه في الحقيقة، نحن السواح، لا نتعرف على حياة الفراعنة، بل ما نزال حتى اليوم نفسر خيالهم العظيم.. حضارة الفراعنة قائمة على الآساطير وعلى مفهوم الآخرة.. أو يوم الميعاد.. يبدو من خلال أساطيرهم وخيالهم أنهم لم يعيشوا ليومهم بل كانوا دوما يعيشون للمستقبل.. والله اعلم.

منذ ذلك الوقت، كان لدى الفراعنة – والتي استنبطها الآلهة الاغريق والرومان فيما بعد- وربما حديثا، قرأت شيئا مشابهاً لدى الروس- أن تسمية "الغرب" هو نسبة إلى المكان الذي تغرب فيه الشمس..أي الأفول.. في حين الشرق، هو المكان الذي تشرق منه الشمس، وهو رمز الحياة.. ولذلك كانت الأقصر التي تحوي على أكثر من 30٪ من آثار العالم تقسم إلى ضفتين: الشرقية والغربية. الشرقية هي نبض الحياة، ومركز المدينة، في حين أنّ الضفة الغربية كانت فقط مخصصة للمزارات والمقابر، لأنها ترمز إلى الممات. لو تأملنا هذه الفلسفة لربّما نكف عن تمجيد الغرب أو اعتبارهم مصدر الإلهام.

لم يكن منطقيا، أن أزور لأقصر دون أن أمر على أسوان.. أسوان لا تشبه إلّا نفسها. أعتقد أن الفرنسيين نجحوا في إعادة هيئة الفخامة الملكية الى بعض القصور التي تحولت الى فنادق عريقة مثل فندق Old cataract by Sofitel الذي يتميّز بإطلالة وترّاس رائعة على نهر النيل. يمكن للزائر، بعد أن يستمتع بالقهوة على هذه الترّاس، أن يقوم باكتشاف المدينة في مركب على النيل كما فعلت، للمرور على القرى النوبية المجاورة والتعرف على تلك الشعوب. النوبيين يقطنون بين مصر والسودان، وللمفارقة فإنّ الشعب النوبي المتواجد في مصر معظمهم من المسلمين، في حين النوبيين الموجودين في السودان هم من النصارى.. عموما لدى النوبيين عَلَم خاص بهم ولديهم لغة خاصة بهم.. لكن ولائهم لمصر الحبيبة قوي جدا.

زرت أيضا السد العالي "فخر مصر". هو فعلا إنجاز عظيم، تم إنشائه بالتعاون مع السوفييت، وهو محصّن عسكريا على أعلى المستويات.. بالطبع سيكون ذلك مفهوما.. فالروس هم أكثر الدول التي تعرف فنون الحروب، والسدود دوما هي أحد الأهداف التي يقصدها العدو.

في ختام جولتي إلى أم الدينا، لا يمكن تجاهل الرابط الكبير بين السوريين والمصريين.. دوما كنت أعامل معاملة "المصري" وليس معاملة "الأجنبي". على الرغم من أن الترحيب المصري للعرب ُيشهَد له دوماً، لكني شعرت بصدق أحدهم عندما تفاجأ أنني سورية ثم قال لي: سوريا! أطيب ناس وأحسن ناس.. نورّتينا حضرتك يا فندم.. نوّرتي بلدك!

مصر ..هي فعلا كذلك..هي بلدي