ونحن نرى ما آلت إليه الأحوال الاجتماعية وأوضاع البنية التحتية في قطاع غزة، تتبادر إلى أذهاننا تساؤلات حول ما يخبئه المستقبل للغزيين بعد هذه الحرب الضروس، التي تجاوزت في وتيرتها وخسائرها كل ما خلفته المواجهات العسكرية السابقة مجتمعة، لا سيما لناحية تكلفة إعادة إعمار مدينة غزة التي دمرت عن بكرة أبيها، فضلاً عن مصير الآلاف من العاطلين عن العمل والمسرحين من وظائفهم في دولة الاحتلال.

قد يكون من الصعب تصور واقع مغاير لحياة الغزيين حتى وإن انتهت هذه الحرب بسقوط حماس، الراعي الرسمي للمواجهات المحفوفة بالدمار والخراب، بعد أن دخلت غزة مرحلة الانهيار الشامل لجميع مقومات الحياة الانسانية، وتحولت إلى صور شبيهة بصور برلين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وربما سيحتاج الغزيون إلى سنين طويلة وإلى مليارات عديدة حتى ينفضوا عنهم ركام الحرب ويستعيدوا بعضاً من مظاهر حياتهم الطبيعية، وربما لن يحظوا بالقدر الكافي من الصبر لانتظار ذلك، بعد أن استنفدت الحرب نفسهم الطويل وقدرتهم على التحمل.

لم تكتف هذه الحرب بتغيير المعادلة من حرب مقاومة إلى حرب بقاء، بل دقت النعش الأخير في مسمار اقتصاد غزة، وحمَّلت الغزيين فاتورة إعادة إعمار تفوق 50 مليار دولار، وخلفت تكلفة بشرية لا تقدر بثمن، وأربكت المسالمين الباحثين عن حقهم في العيش، وأعادت جميع العمال إلى ديارهم مثقلين بتحديات الحياة ومعاناة البطالة، وأفقدت المئات ممن يعيشون داخل القطاع مصادر أرزاقهم، وقللت من اعداد الأبنية وزادت من أعداد الخيم، ومع ذلك يتحدث المطبلون لحماس عن انتصار أربك إسرائيل، ودمر مخططاتها، لكن في الحقيقة أن هذا انتصار من يده في الماء وليس انتصار من يده في النار.

لا يختلف اثنان في كون سياسات الاحتلال كانت من منغصات الحياة على الغزيين، لكن لا يمكن إغفال أن نهج حماس في إدارة القطاع قد زاد من وطأة الظروف الصعبة للغزيين، بعد أن فشلت في تحريك عجلة الاقتصاد المتوقفة، وصمت آذانها عن ضرورة مراجعة أولوياتها السياسية لصالح الأولويات الاقتصادية المستعجلة، ولطالما لجأت إلى جيوب من تحملوا تبعات سياساتها الخاطئة لتغطية عجز ميزانيتها، ولجأت إلى الضرائب المثيرة للسخط، وخونت كل الأصوات التي تغرد خارج سربها، وقمعت جميع مع ينادي بحراك "بدنا نعيش". وفي مقابل دعمهم شعارات حماس، لم يجنِ الغزيون سوى الحرب تلو الحرب، ولم تحقق حماس منذ استيلائها على السلطة أي نصر ملموس يكون كفيلاً بتسديد فواتير التضحيات المادية والبشرية التي قدمها الغزيون.

وفقاً لمنظمة العمل الدولية، فإن الحرب الأخيرة قد تسببت في خسارة ما لايقل عن 182 ألف وظيفة، بما يعادل 61% من القوة العاملة في غزة، ما يعني أنه، وبمجرد أن تضع الحرب العسكرية أوزارها، سيجد آلاف الفلسطينيين أنفسهم في حرب مع لقمة العيش، وستضطر قطر إلى مضاعفة منحتها من أجل السيطرة على ثورة الجوع وحق العيش التي تنتظر حماس ما بعد الحرب، هذا إن نجحت حماس في اجتياز الطوفان بسلام وتمكنت من تمديد فترة حكمها إلى مابعد رحيل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو .

مهما حاولت البروباغندا الإعلامية الداعمة لحماس تسويق طوفان الأقصى على أنه خيار مكن المقاومة من فرض معادلة جديدة في الصراع العربي - الإسرائيلي ونجح في ردع العدو ومكن من إيقاظ روح الثورة في نفوس الغزيين، الا أنها من المستحيل أن تغطي الشمس بالغربال، وأن تقنع سكان غزة بأنها تحارب من أجلهم في سبيل تحرير فلسطين وتحقيق حياة كريمة، وهو ما يبرر تدمير غزة فوق رؤوسهم تحت مسمى التضحية في سبيل الوطن. الحقيقة التي لا ينكرها عاقل هي أن أهل غزة قد دفعوا ثمناً باهظاً من دون مقابل تقريباً، اللهم إلا فقط من أجل أن يحييهم قادة حماس على صمودهم من الدوحة وأنقرة وبيروت ومن داخل الأنفاق، ومن أجل صفقة تبادل كان مقابلها عشرات آلاف القتلى والنازحين في غزة.