لا يقصد بالضعف الاستسلام والقبول بالاحتلال كأمر واقع، بل المقصود بها القدرة على الفعل والتأثير والبقاء والوجود كشخصية وهوية وطنية متجذرة وثابتة على أرضها، ومعناها عدم قدرة إسرائيل بقوتها على محو الشخصية التاريخية للشعب بما له من عناصر قوة ثابتة.

الضعف هنا المقصود به فشل إسرائيل من ناحية في محو وتفكيك القضية الفلسطينية، ومن ناحية ثانية امتلاك الشعب الفلسطيني عناصر القوة المؤثرة والفعل. وهنا بعض الملاحظات المهمة: الأولى أنَّ قوة فلسطين في تاريخها الممتد في المنطقة، والذى يتجسد في قوة الحقوق والسرديات الفلسطينية الثابتة، وفى الوجود الفلسطيني من قبل اليهود وغيرهم. وهذا هو العنصر الأول القوي والذي لا يمكن لأي قوة عسكرية محوه. الملاحظة الثانية قوة الضعف الفلسطيني في ماهية القضية الفلسطينية، فهي نتاج تحالفات استعمارية صهيونية، ونتيجة ضعف عربي في مرحلة تاريخية، واليوم تتجسد في القضية كما نرى في الحرب على غزة كل مكونات النظام الدولي، فالأمن والاستقرار إقليمياً وعالمياً يرتبط بقيام الدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال، وتكشف هذه الحرب عن عنصر قوة تفوق القدرات العسكرية لإسرائيل، وهو الصمود والبقاء على الأرض رغم كل التضحيات والدمار الذي لحق بغزه. هذه العناصر توضح لنا أين تكمن عناصر القوة، وكيف يمكن أن نحول الضعف لقوة لا تهزم.

وهل يملك الفلسطينيون عناصر القوة الصلبة؟ وما هي عناصر قوتهم الناعمة؟ القوة لها معنيان الصلبة والناعمة. الصلبة بما تعنيه من القوة العسكرية والاقتصادية، وهذه قد تكون غير متاحة فلسطينياً، لكن أهم عناصر القوة الصلبة تتجسد في العنصر السكاني وفى الهوية الوطنية. فاليوم عدد الشعب الفلسطيني يصل الى 15 مليوناً، منهم حوالى ستة ملايين في الضفة وغزة، وأكثر من مليون في داخل إسرائيل تحت مسمى عرب إسرائيل، ولكنهم محتفظون بهويتهم الوطنية، وملايين أخرى في المخيمات وفي الشتات، وهنا عنصر القوة الآخر في المحافظة على مشكلة اللاجئين التي تلخص المشكلة الفلسطينية بالنكبة والمذابح التي ارتكبتها القوات الصهيوينة لتفريغ الأرض من سكانها تحقيقاً لمقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وهي نفس السياسة نراها اليوم في غزة، ولكنها فشلت. فما زالت قضية اللاجئين بما تحمله من الحق في العودة قائمة.

ومن عناصر القوة رغم ضعفها قرارات الشرعية الدولية التي تؤكد على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وعلى عدم شرعية المستوطنات وإنهاء الاحتلال، والاعتراف بفلسطين دولة "مراقب" في الأمم المتحدة، والتذكير أيضاً بقوة القرار 181 الذي يؤكد على حق الشعب الفلسطيني في قيام دولته، فيبقى هذا القرار وغيره من القررات مرجعية دولية. فقرارات الشرعية الدولية لا تسقط بالتقادم. والحضور الدولي في العديد من المنظمات الدولية وحق فلسطين بمحاكمة إسرائيل أمام الجنائية الدولية.

وإلى جانب هذه العناصر، تكمن قوة الشعب الفلسطيني في ثقافته وجامعاته وزيه الوطني وعلمه، وفي الحضور الكبير من الأكاديمين والعلماء والمختصين في كافة التخصصات العلمية والذين يعملون في العديد من الجامعات الأجنبية.

وقوة ضعف الشعب الفلسطيني في قوة الحق التاريخي على أرضه، وقوة مقاومته السلمية الشعبية. ولقد عبرت المسيرات الشعبية التي شهدتها العديد من العواصم وأبرزها في أميركا وأوروبا عن رفضها الحرب الإسرائيلية والمطالبة بإنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية، وزيادة هذه النسب لتصل ما يقارب 95 بالمئة مع تراجع واضح للتأييد لإسرائيل وسردياتها دليل واضح على قوة الضعف الفلسطينية.

مقابل هذه العناصر، هناك عناصر من الضعف تتمثل أولاً في الانقسام السياسي وتحوله إلى حالة من الفصل السياسي، والذي قد يفسر لنا في جانب منه الحرب على غزة. وقوة الضعف هذه تحتاج إلى مقومات وترجمة في سياسات ورؤية شاملة، وأول هذه المقومات إنهاء الانقسام، وثانياً إعادة بناء المؤسسات السياسية على أسس من الشرعية والتعددية السياسية وتفعيل منظومة القيم السياسية التي تجسد الهوية النضالية الفلسطينية وتؤكد على عمقها، خصوصاً في ما يتعلق بالتعايش والسلام والتسامح ونبذ القوة والعنف والكراهيةو والتأكيد تاريخياً أن اليهود، وحتى الهجرة الأولى، عاشوا معاً في ظل من هذه الثقافة التسامحية، والتركيز على كثير من النماذج التي تؤكد مصداقية هذه الثقافة، وتدحض كل مقولات الصهيونية التي تلصق الإرهاب بالشعب الفلسطيني كما رأينا في العديد من الصور في الحرب على غزة، ومحاولة إبراز جانب الإرهاب.

القوة الناعمة هي قوة الضعف، تحتاج إلى نظام سياسي مدني توافقي ديموقراطي برؤية سياسية واحدة، وبتوحيد سبل المقاومة السلمية، فالقوة لا تواجه بقوة، بل بكشف غطرستها وعدوانيتها. قوة الضعف هذه هي القادرة على دحض وكشف عناصر ضعف القوة الإسرائيلية. وكما يقول الفلسوف الصيني صن تزو قبل القرن السابع الميلادي في كتابه "فن الحرب": أسمى فنون الحرب إخضاع العدو من دون مواجهته". ويقول أيضاً: "اعرف نفسك واعرف عدوك، وسوف تخرج منتصراً مئة مرة في مئة معركة". وكما يقول صاحب كتاب "القوة الناعمة" جوزيف ناي، إن المعارك لا يمكن أن تربح فقط في ميدان القتال، وأن الكاسب في الحرب هو ذلك الذي يكسب قضيته في الإعلام.