يُثْبِتُ الإعلام ثانيةً أنه بطل كوكبنا، وبتفرُّد وامتياز.
ها هو يقدِّم روايات حيّةً من أسرى إسرائيلين عادوا يتحدثون عن لغة حمساوية إنسانية، ومطالب عادلة، ومعاملة أخلاقية.
إعلام عالمي، على غير العادة، يدعم القضية الفلسطينية، التي يعرف الجميع في خلده أنها عادلة. يُضاف إليه تأثير الإعلام الآخر المترجم للحقيقة القائلة بأن كل طرف دعم فلسطين كان له ثأره التاريخي الخاص مع حلف إسرائيل وأمريكا والغرب بقضية أو أخرى.

وها هو يتشكّل رايٌ عام بنسبة ما داخلي إسرائيلي مدني وسياسي يدفع باتجاه حل سياسي وثمن سياسي تقدمه إسرائيل. وهذا تهديد ليس بقليل داخل البيت الإسرائيلي الواحد، وتجاه فكرة الوطن التاريخي لليهود ومظلوميتهم.

إذا طالت الحرب، يتوقع ان يقوى هذا التوجه. ومع ارتفاع الكلفة بشريًا، سيقوى خصوصاً داخل المجتمع المدني اليهودي، وبدرجة ما داخل توجهات الأحزاب السياسية الإسرائيلية. ومن هنا، فإن لإسرائيل مصلحة في الحسم الكلي العاجل، وإحلال نموذجٍ مهجّن على رماد حماس، كما يشتهي هذا المد. ومن ثم سيتبع ذلك مباشرة الإعمار، وتدفق حزم اقتصادية عاجلة، لتستميل شارع فلسطيني، وتمنع إشغال فراغ حماس بنموذج مقارب، ولتظهر للشارع اليهودي، أن حماس حالة ينكرها شارعها، خصوصًا بعد انتحارها وغزة جماعيا وقسرياً.

إسرائيل كحماس عالقة في فخ كبير.
لقد تمَّ المساس بهيبتها كارثياً، ووصلت إلى طريق لا منتصف له؛ تماما كحماس. و لكن باتجاهين متضادين: فحماس تقاتل، كي لا تخرج بلا مكسب وتدَمَّرَ مجانا؛ وإسرائيل تتحمل كلفة، وتمضي بها تصاعديا، وما لها من خيار سوى الحسم الكامل.
إنه الفخ الذي أطبق على صنّاعه كمصيدة أعدت بإتقان؛ حيث لعب أطرافها ببراعة، ولكنها ابتلعتهم جميعاً.
وكأن كل صاروخ يُطلَق اليوم من جنوب لبنان، أو من الحوثي، أو فوق قاعدة أمريكية، هو صفعة للعقول التي هندست أساساً أفخاخ تخادمية، وقبلت بالتكتيكي الرخيص على حساب الاستراتيجي، الذي يحمل ديمومة للسلام والأمن بأخلاق وإنسانية.

صحيح أن هذه ليست من مفردات السياسة كفن الممكن، المتّشحة بواقعيتها البليدة؛ إلا أن الثمن على الجميع كان فوق الإحتمال.
نحن كسوريين عالقون بالمعادلة ذاتها أيضا، إلا أنه، ولأول مرة يعمل الزمن معنا؛ من دون أن يكون لنا يدٌ بذلك، وكم نتمنى وقفه.
لم يعد لدينا ما نخسره؛ ولكن كل صفحة في الحرب اليوم تُحدِثُ انفراجةً معلقةً في هذا الطريق، او ذاك الموقع والحسابات. فما تبقى من نظام الأسد جزء لا يتجزأ من منظومة الملالي التخادمية الوظيفية، والتي احترقت أوراقها ضمن هذا الحريق الرهيبب.

لقد حمل عام ٢٠٢٣ حصاد ما قبل غزة من سياسات ميكافيلية تخادمية، سمحت باختراق مكلف كارثي على الأصيل، وبكل الاتجاهات. أما عام ٢٠٢٤، فحمْلُه حصاد مابعد غزة، الذي قد يذهب بكل اتجاه باستثناء استمرار الدم و التشرُّد والدمار، ليكون قطافه سلاماً وحرية وكرامة، لأن حصاداً كهذا أقل كلفة، وليس لأنه اكثر إنسانيةً وأخلاقاً.

إن عدم الانتصار الكامل مُرْفَقاً بانقلاب على هذه المنظومة التخادمية وعلى القواعد التي حمتها، هو فخ كبير أكثر كارثيةً، تبدو غزة بجانبه غداً مجرد عملية إحماء عملياتيعابرة قابلة للتكرار بخطر وجودي فعلاً.

ستجيب هذه اللحظة بدقة عن أسئلة جوهرية طالما شغَلَت أذهان الاستراتيجيين مفاده… مَن سيحكم الشرق الأوسط، وربما العالم؟
إسرائيل بصقورها، والمؤمنين برواية التوراة؛ أم اربابٌ جددٌ في دولة عميقة مصالحها فوق كل اعتبار؟
وهل الدم اليهودي أغلى أو أرخص من دولار عابر للايدلوجيات متجاوزاً كل ثابت؟
إنها الأسئلة المفتاحية نحو صدع عميق يتجلّى لأول مرة بين إسرائيل اليهودية، وإسرائيل الأمريكية. والأخطر هو أن ما مِن مقاربة وسط بينهما، وتلك أُم المفارقات الآن وغدًا؛ فهذا تضاد أهم من كل سياقات الحرب مع عدو وجبهات خارجية.
فبعد غزة، إما أن تكبُرَ إسرائيل اليهودية لتحكم الشرق الأوسط، أو تنكمش إلى تابع لقطب متماهي المصالح والقوى.