يقرأ متابعو مواقف طهران في الشرق الأوسط أن المشروع التوسعّي الإيراني في المنطقة يروّج، إعلامياً على الأقل، لنفسه مستنداً إلى عاملين رئيسين:
الأول ما يشاع عن خطوات تطبيع سعودي إسرائيلي، يشير مشيعوها إلى انها بلغت مراحل متقدّمة. وأنها وفق هؤلاء تسعى إلى استقرار إقليمي تحتاجه "رؤية 2023" السعودية الطامحة إلى الازدهار الاقتصادي، الذي يصعب تحقيقه من دون سلام مستدام.
والثاني، انسداد الأفق أمام إعادة تأهيل نظام دمشق، وهو ما يُنذر بتصاعد الحراك الشعبي لإسقاطه على نحو متنامٍ. وبالفعل، ظهرت بوادر هذا التصاعد في حراك الجنوب السوري (السويداء ودرعا) مع إمكانية تمدده ليشمل ما تعدّه إيران "الحاضنة الشّعبية للنظام السّوري" في الساحل (اللاذقية وطرطوس) وجوارهما في (حماة وحمص). والواقع أنه إذا ما حدث واتسع الحراك السّوري الضاغط لإسقاط النظام إلى السّاحل وجواره فسيكون ذلك ضربة قاصمة لظهر المشروع الإيراني الممتد من العراق إلى لبنان مروراً، طبعاً، بسوريا.
قلّة يشكون في أن المشروع التّوسّعي الإيراني في المنطقة كان المسؤول الأول عن أفظع انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا والعراق ولبنان وصولاً إلى اليمن. ثم أنه تمكّن من تهديد استقرار مجمل الشرق الأوسط، ومن خلال ذلك مكّن إيران ابتزاز مختلف القوى إقليمياً ودولياً في صفقاتها التي تضمن استمرار النظام الثيوقراطي الإرهابي في طهران بعكس إرادة الشعب الإيراني نفسه.
لقد كان نجاح حراك السّوريّين في الضّغط لإسقاط النّظام السّوري الديكتاتوري، ولا يزال، كفيلاً في وضع النظام الإيراني على المحك أمام خيارين أحلاهما مرّ: الخيارٌ الأول عقلاني يتجنّب انهياراً تامّاً لنفوذه في سوريا (عقدة الرّبط الأهم في مشروعه التّوسّعي)، مؤدّاه خروج الميليشيات الإرهابية التّابعة لإيران من سوريا، والتّفاوض على النّفوذ الاقتصادي المُريب الذي بنته طهران في سوريا خلال مراحل حمايتها للنظام في دمشق بوجه ثورة لأجل التغيير الديمقراطي في البلاد. وهذه حمايةٌ إيرانيةٌ مشروطةٌ بابتزاز سلطة بشار الأسد وسرقة ثروات البلاد.
والخيار الثاني أن تذهب إيران إلى مواجهة خاسرة ومفتوحة مع السّوريّين "جميعاً". ولعل مواجهة من هذا النوع ستتوافق، نظرياً على الأقل، مع مصالح مختلف القوى على مستوى إقليمي ودولي (معظم العرب وتركيا والولايات المتّحدة الأميركيّة ومعظم أوروبا) في إخضاع إيران للقوانين الدوليّة بعيداً عن ممارسة الإرهاب الممنهج وتجارة المخدّرات. وهذا، أمام خلفية وصول أذرع النظام الإيراني إلى شتّى أرجاء المعمورة، بدءاً بالشرق الأوسط ومروراً بأفريقيا وأميركا اللاتينية وليس انتهاءً بأوروبا.
إن مواجهة إيران الخامنئي للسوريّين جميعاً، في ما لو حصلت، تكون مهمّة مستحيلة لا يخوضها إلا مجنون. وللعلم، لا بُد من التذكير هنا بأنّ ملالي طهران لم يتردّدوا يوماً في ارتكاب أفظع الانتهاكات بحق ابرياء الشّعب الإيراني نفسه، إلّا أنّ النّظام الإيراني أيضاً قد عُرِف باتّباعه حسابات دقيقة وحذرة حين يتعلّق الأمر بالحسابات الباردة للربح والخسارة.
لقد بادرت إيران إلى المغامرة في تفجير المشهد الشّرق أوسطي استباقاً للخيارين الخطيرين حقّاً على مشروعها الخبيث في المنطقة. وبما أن القيادة في طهران تسيطر بشكل شبه مطلق على "حركة المقاومة الإسلامية في غزّة" كما تسيطر على حزب الله، غامر "الحرس الثوري الايراني" بفتح معركة انطلاقاً من غزة حصراً. لقد فعل هذا وهو يعرف مُسبقاً أنّها لا يمكن أن تنتهي بانتصار عسكري فلسطيني، بل ويعرف أيضاً أنّها ستشوه مطالب الفلسطينيّين المحقّة في تقرير مصيرهم ونيل حقوقهم المنسجمة مع القرارات الدّولية وشرعة حقوق الإنسان.
لقد أطلقوا عملية عسكرية من غزة بدأت باختطاف المدنيّين تعزيزاً لمخاطبة العقل الغربي زوراً أن العمامة السّوداء "أعقل" من العمامة البيضاء، كما فتحت الباب عريضاً على حرب لا قدرة للمدنيّين الفلسطينيين على تحمّلها،. وليس أقلّ هذه الحرب آثاراً الغارة التي استهدفت المستشفى الأهلي المعمداني في مدينة غزة، والتي أودت بحياة عدد كبير جداً من الضحايا المدنيّين الفلسطينيّين، ولم تلق اهتماماً دولياً حتّى لحظة كتابة هذه السّطور أكثر من الإدانات السّياسيّة، من دول عربية وأوروبيّة كفرنسا بينما الحرب مستمرّة ولا مبادرات جادّة لإيقاف هذه الحرب وصُنع السّلام.
حتى اللحظة، التزمت إيران بخبث بالنّأي بنفسها عن المسؤولية في إشعال فتيل هذه الحرب، واكتفت بإشارات تمهيديّة على أنّها قد تلعب دوراً في إطلاق الرهائن من جنسيات مختلفة (منها أميركية وجنسيّات غربيّة أخرى). وهذا دورٌ تمرّست به طهران منذ خطف حزب الله رهائن أميركيّين في لبنان ثم إطلاق سراحهم في صفقات مع الغرب. والذاكرة زاخرة بسلوكيّات إجراميّة ابتزازيّة مارسها النظام الإيراني على مدار عقود منصرمة، وإن لم تنجح هكذا صفقات في خدمة مصالح خامنئي، ولم تستجب واشنطن لشروطه، فعندها لن تكون مغامرة طهران خاسرة بل تجربة تحسم أمرها بتعميق توجّهها شرقاً مع روسيا إلى الفلك الصيني.
من المؤكّد أنّ إيران نجحت، وفق حساباتها، في قلب الطاولة وتجنّب وضعيّة شديدة الإحراج في سوريا بإطلاق حربٍ يدفع ثمنها مدنيّون من مختلف الأطراف. بل و وتهدّد هذه الحرب بإثارة اضطراباتٍ في مختلف أنحاء العالم وسط استمرار طهران في تغذية نيرانها، مفيدة ردّ فعل إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو ومستفيدة منه. ومفهوم أن التّصعيد غير المسبوق وإطالة أمد المعركة لا بد أن يخدما مصلحة نتنياهو في التهرب من استحقاقات داخليّة تلاحقه.
يبقى القول إن احتمال عودة الأحداث الإقليمية في الشرق الأوسط إلى المسار الذي كان يخطو إلى الأمام على حساب المشروع الإرهابي الإيراني لا يزال قائماً . إلا أنه يبدو الآن أصعب بعد مغامرة طهران بورقتها في غزّة، كما تراها. ولكن، لا شك، في أن عودة هذا المسار المُفضي إلى دعم الحراك السّوري، وهزيمة توسّع الميليشيات الإرهابية التابعة لإيران في سوريا، يستطيعان الضغط على النظام الإيراني وجلبه إلى حظيرة المجتمع الدولي بشروط تتوافق مع مصالح شعوب المنطقة وتضمن ضبط سلوك طهران التخريبي. بمعزل عن هذا، سيواصل نتنياهو وأتباع إيران الإقليميين في تخريب المنطقة، بينما يجلس "مرشد الثورة الايرانية" علي خامنئي في العتمة، بعيداً عن المواجهة المباشرة، وهو يسخر من الجميع.
التعليقات