منذ أن شنت إسرائيل هجومها على غزة قبل ما يقرب من ثلاثة أشهر، ظلت الولايات المتحدة وبعض المسؤولين الإسرائيليين والمعلقين الإعلاميين يتحدثون عن سيناريو اليوم التالي، أي ما الذي سيحدث عندما تصمت المدافع وينقشع ضباب الحرب. لقد افترضت أغلب السيناريوهات أن إسرائيل سوف تكون قادرة على تحقيق هدفيها المعلنين، وهما اقتلاع حماس من غزة، وتحرير الأسرى الإسرائيليين المحتجزين هناك.

لكن بعد أكثر من ثمانين يوماً من القصف الإسرائيلي، والذي تعترف حتى شبكة سي إن إن بأنه "عشوائي"، ومع تدمير أكثر من 60 بالمئة من مباني قطاع غزة، فإن إسرائيل بعيدة كل البعد عن تحقيق أي من الهدفين.

وُصِف قصف غزة بأنه الأسوأ منذ حرب فيتنام. وقُتل أكثر من 20 ألفاً من سكان غزة، 70 بالمئة منهم من النساء والأطفال. وأصيب أكثر من 50 ألفًا. وقوافل المساعدات التي تمر عبر معبر رفح كل يوم غير كافية وفقاً للأمم المتحدة، التي تقول أيضاً إنَّ الفلسطينيين في غزة يواجهون المرض والمجاعة. وسيموت الآلاف بسبب البرد ونقص الأدوية والغذاء والمياه النظيفة.

يصر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بالرغم من ذلك، على أنَّ إسرائيل ستواصل القتال حتى تحقيق النصر، وهو هدف يبدو الآن بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلاً. وهناك دعوات متزايدة في إسرائيل لإقالة نتنياهو، في حين يتضاءل بانتظام دعم الحرب بين الإسرائيليين. وتواصل حماس وحلفاؤها إطلاق الصواريخ على البلدات والمدن الإسرائيلية، في حين تلحق خسائر فادحة بالجيش الغازي.

لقد وصل الدعم لغزة وفلسطين إلى مستويات قياسية في جميع أنحاء العالم، باستثناء موقف حكومة الولايات المتحدة، حيث تدعم الأغلبية الآن وقفاً دائماً لإطلاق النار. لقد تغير الكثير في الأسابيع الأخيرة. تنتقد معظم وسائل الإعلام الغربية السائدة الآن طريقة تعامل إسرائيل مع الحرب، ويعتقد عدد متزايد من المراقبين أن إسرائيل تخوض معركة خاسرة، في حين يشيرون أيضًا إلى احتمال ارتكابها جرائم حرب. وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، يصطف الشباب لإدانة الحرب والتعبير عن تضامنهم مع الفلسطينيين.

يريد نتنياهو وشركاؤه في الائتلاف اليميني المتطرف أن يستمر الصراع بأي ثمن. يرفض نتنياهو الاستماع إلى أقارب الرهائن الذين يطالبون باتفاق ينهي الحرب ويؤمن العودة الآمنة للأسرى. وتخسر إدارة بايدن الدعم الشعبي، حيث يريد ما يقرب من نصف الشعب الأميركي وقفًا دائمًا لإطلاق النار. لقد أصبحت الولايات المتحدة معزولة حتى بين حلفائها، الذين يختلف أغلبهم مع إعطاء إسرائيل الضوء الأخضر للعمل بشكل عشوائي في غزة.

لكن فيما يتعلق باليوم التالي، فإن نتنياهو والولايات المتحدة لا يتفقان. ويبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يقاتل الآن من أجل مستقبله السياسية، يريد توسيع السيطرة الأمنية الإسرائيلية على غزة، وهو ما يعني احتلالاً مفتوحاً. ومع ذلك، فإن بايدن وحتى معظم الإسرائيليين لا يتفقون مع هذا الرأي.

لقد رفض الجناح العسكري لحماس اقتراحاً مصرياً يقضي بتأمين هدنة طويلة الأمد مقابل إطلاق سراح الأسرى، مع فتح الطريق أمام سيطرة مشتركة بين حماس والسلطة الفلسطينية على غزة، ولكن من دون تحديد تفاصيل الانسحاب الإسرائيلي. ولا يخفى على أحد أن وقف الصراع الآن سيمثل هزيمة مدوية لإسرائيل، تؤدي إلى انهيار حكومة الحرب، وتقديم نتنياهو إلى المحاكمة.

المسألة الثانية ليست من سيحكم غزة بمجرد توقف القصف، بل كيف سيتدخل المجتمع الدولي لإنقاذ الملايين من النازحين الذين يعيشون في ظروف كارثية. ويجب ألا يُسمح لإسرائيل بأن تقرر عدد شاحنات المساعدات التي يُسمح لها بالمرور عبر رفح والمعابر الأخرى عندما تكون حياة الملايين على المحك. ويتعين على العالم أن يدفع تعويضات عن فشله في احترام القانون الإنساني الدولي وإنقاذ عدة آلاف من أرواح الأبرياء، لأن الولايات المتحدة وإسرائيل اعتقدتا أن ما يسمى بالأضرار الجانبية أمر مقبول في هذه الحالة.

لكن الأمر المهم والعاجل أيضًا هو إجراء تحقيق مستقل فيما حدث يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) وما بعده. ومن المثير للسخرية أن كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، قبل دعوة للقاء العائلات الإسرائيلية التي كانت أهدافاً لهجوم حماس، لكنه رفض زيارة قطاع غزة أو الإدلاء ببيان يتعلق بمزاعم ارتكاب جرائم حرب إسرائيلية. ويضع ذلك مصداقية المحكمة الجنائية الدولية على المحك، حيث يلتزم خان والمحكمة الصمت إزاء ما تقوم به إسرائيل في غزة.

وتشير الإحصائيات إلى أن نحو 100 صحافي وعائلاتهم قتلوا على يد إسرائيل. لقد قُتل أطباء ومسعفون وأساتذة جامعات وناشطون وشعراء وفنانون وموظفون في الأمم المتحدة وآلاف الأطفال. لقد تم هدم المستشفيات والجامعات والمدارس والمساجد والكنائس والمراكز المدنية والمباني السكنية. وهناك تقارير عن عمليات إعدام جماعية للمدنيين. إذا كان خان غير قادر على التحرك، فعليه الاستقالة. وإلا فإنه لا يصلح لتولي منصبه، وهو بذلك يشوه مصداقية المحكمة الجنائية الدولية والغرض منها.

وقد تم رفع العشرات من القضايا أمام المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بقتل الصحفيين والأطفال والجرائم على يد ضباط إسرائيليين وتواطؤ شخصيات سياسية بارزة في جرائم الحرب. لا يمكن لخان أن يتجاهل هذه الحالات، التي تعتبر جميعها إسرائيل المذنب الرئيسي.

"اليوم التالي" بالنسبة لغزة لا يتعلق فقط بمن سيحكم القطاع المحاصر والمسوى الآن حيث كان يعيش 2.1 مليون فلسطيني، 70 بالمئة منهم من النازحين أو اللاجئين بالفعل، ولا بدَّ من أن تؤدي الحرب على غزة إلى خلق نظام عالمي جديد، يمنع تكرار المذبحة في غزة مرة أخرى.