هناك قول عند العرب يجري مجرى الحكمة، يقول "يكاد يقول المذنب خذوني"، وذلك لأنَّ الحالة النفسية لمرتكب الخطأ أو الجرم تتشرَّبها المخاوف من المجهول الذي يشغل باله ويرافقه في كل لحظة من حياته، فهناك القانون الذين يدين الجريمة ويعاقب عليها، وهناك المجتمع الذي يستهجن الجريمة وينظر لمرتكبها بعين الإزدراء والكراهيَّة.

كذلك تشغل باله الحيرة، ويرتفع في أعماقه منسوب القلق الحاد وعدم الراحة المزمنة، ويسيطر عليه الاضطراب، فهو لا يشعر بالاطمئنان ولا بالأمان، فيخاف من كل إنسان ويصيبه الرعب في كل مكان، ويحسب كل صيحة عليه وكل إشارة ضده لاشتغال عقله وتفكيره بهموم الذنب الذي ارتكبه بحق الإنسان الآخر.

وقد يدفعه ذلك إلى مناصرة من كان على شاكلته ونظيراً له في ارتكاب الذنب والدفاع عنه، لأنه يرى في اشتراكه معه في شكل الذنب تبريراً لذنبه وتسويغاً له، وألمانيا كدولة وكحكومة من مصاديق هذه السردية التحليلية في موقفها الداعم لإسرائيل في محكمة العدل الدولية.

فقد قررت ألمانيا رفض لائحة الاتهام الأخلاقية التي قدمتها دولة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، متهمة إيَّاها بارتكاب إبادة جماعية ضد اهل قطاع غزة الفلسطيني.

ولم تكتفِ هذه الدولة التي كانت سبباً في مقتل أكثر من 60 مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية، وكانت أكثر الصراعات العسكرية دموية على مستوى العالم، فقد أعلنت أنَّها ستتدخل كطرف ثالث أمام محكمة العدل لدعم إسرائيل في قضية الإبادة الجماعية.

ولقد جدت ألمانيا نفسها ملزمة بالدفاع عن اسرائيل ضد جريمة الإبادة الجماعية لسكان غزة، هذه الجريمة الشنيعة التي أعادت إلى ذاكرة المسؤول الألماني شبح ذكرى جرائم المستعمر الألماني، ليدور فوق رؤوس المسؤولين الألمان في سجلاتهم الأستعمارية لشعوب الأرض، فهناك مجزرة ارتكبتها ألمانيا ضد الشعب الناميبي في بداية القرن العشرين خلال استعمارها لهذا البلد، راح ضحيتها الآلاف من أبناء هذا البلد. ففي ناميبيا بين عامي 1904 و1908، قُتل عشرات الآلاف من أبناء قبيلتي هيريرو وناما في مذابح إبادة جماعية ارتكبها المستعمرون الألمان، واعتبرها العديد من المؤرّخين أول إبادة جماعية في القرن العشرين.

وقد أسفرت هذه المذابح عن مقتل ما لا يقل عن 60 ألفاً من أبناء هيريرو، وحوالى 10 آلاف من أبناء ناما.

وتعتبر الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها الملايين من أهل كوكب الأرض، أي بما لا يقل عن 60 مليون إنسان، وتسبب بها الفوهرر هتلر زعيم الرايخ الألماني الثالث، أبشع وأسوأ حرب إبادة في تاريخ الإنسانية على الإطلاق.

إقرأ أيضاً: ما بين الازدهار والدمار ولاء أعمى وارتهان خارجي

لقد وجدت ألمانيا متنفساً في التماس العذر لنفسها أمام الإنسانية من جريمتها ضد الشعب الناميبي، للترويح عن عذاباتها وتأنيب الضمير التاريخي، في أن تدافع عن إسرائيل في حرب الإبادة التي تمارسها ضد الشعب الفلسطيني، والتي لم يسلم منها الشيخ ولا الطفل ولا المرأة، لأنَّها تقوم على تنفيذ مطالب الركيزة الأولى لإقامة دولتها، وهي التطهير العرقي وإفراغ أرض فلسطين بالكامل من كل ما هو فلسطيني.

وذلك لأنَّ ألمانيا كانت طيلة الفترة التي ارتكبت فيها مجازرها ضد الشعب الناميبي مصابة بعقدة احتقار النفس أمام الآخرين، والتي كان يعاني منها مؤسس علم النفس سيغموند فرويد، وسببتها لها عقدة وخز الضمير من جريمة الإبادة في ناميبيا، لذلك سارعت للدفاع عن إسرائيل لأنها وجدت فيها ضالتها المنشودة في التماثل معها في ارتكابها حرب إبادة بحق الشعب الفلسطيني منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي.

إقرأ أيضاً: ماذا ينتظر خامنئي؟

وكأني بألمانيا تقول للعالم اليوم: "شوفوا يا ناس في كل مكان وانظر يا عالم من كل زاوية، لست وحدي من ارتكب بحق شعب ناميبيا إبادة جماعية، فهذه إسرائيل أبادت الشعب الفلسطيني بدعم ومشاركة من قبل أميركا وبريطانيا وفرنسا إضافة إلينا نحن الألمان".

وقد وصل عدد الشهداء إلى أكثر من 23 ألف شهيد، والجرحى إلى أكثر من 65 ألف مصاب معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، ناهيك عن هدم الدور والمستشفيات والمدارس والجوامع، وهي مستمرة حتى الساعة، مع إصرار رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو على استمرارها، لأنها لم تحقق أهدافها المرجوُة منها، ومن بين أهمها تدمير حماس، بالرغم من أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أخبر المسؤولين الإسرائيليين في جولته الأخيرة أنَّ من الصعب القضاء على حماس.