هي ليست المرة الأولى التي تعلق فيها الدول المانحة مساهماتها المالية في موازنة وكالة الغوث، وفي كل مرة تلفق إسرائيل الأكاذيب والاتهامات ضد الوكالة، وتستجيب بعض الدول بشكل مؤقت وتعلق مساهماتها، وما تلبث أن تستأنف التمويل بعد التحقق من عدم صحة المزاعم الإسرائيلية.

في عام 2018، أعلنت الإدارة الأميركية وقف تمويل الوكالة لأسباب سياسية تتعلق بصفقة القرن. وبعد عام على القرار الأميركي، ونتيجة تقارير لمنظمات صهيونية، علقت سويسرا وهولندا وبلجيكا ودول أخرى مساهماتها المالية بذريعة وجود فساد في الوكالة، والزعم أن مناهج الوكالة تحرض على العنف والكراهية، ثم استأنفت هذه الدول التمويل بعد تأكيدات من الأمين العام للأمم المتحدة بعدم وجود فساد وعدم صحة اتهامات إسرائيل والمنظمات الصهيونية بأن مناهج وكالة الغوث تحرض على العنف، والتي جاءت بعد تحقيقات على أعلى المستويات الدولية لتعلن بعدها أن الاونروا تلتزم بقيم ومبادئء الأمم المتحدة.

ووفقاً للمسار التاريخي للتمويل ولتعاطي الدول المانحة مع الاتهامات السابقة، فكان يفترض عدم الإقدام على أي خطوات من قبل الدول المانحة بانتظار ما ستقدم عليه رئاسة الأونروا والأمم المتحدة في تعاطيها مع الاتهامات الإسرائيلية، خصوصاً بعد أن قام المفوض العام بإجراء مباشر وسريع، بالرغم من أننا نرفضه، بفصل عدد من الموظفين الذين تتهمهم إسرائيل كذباً بالمشاركة في عملية 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وأعلن عن لجنة تحقيق في الاتهامات الموجهة للوكالة، ليتبين بعد ذلك أن ليس هناك من دليل حسي على مشاركة أي من موظفي وكالة الغوث بشكل مباشر في العملية، وما تأكد حتى الآن أن بعض الموظفين المتهمين قاموا بنشر صور وتغريدات على مواقع التواصل تتعلق بعملية المقاومة.

بالرغم من ذلك، يبدو واضحاً أنَّ الاستهداف الراهن لوكالة الغوث يختلف عن المرات السابقة، وسياق الأحداث يؤكد أن هناك اتفاقاً بين عدد من الدول لاستهداف الوكالة نزولاً عند مطالب ومواقف الحكومة الإسرائيلية، التي أعلنت صراحة أن وكالة الغوث لن تكون جزءاً من أي ترتيبات تلي اليوم التالي للعدوان. حيث أعلنت الولايات المتحدة أولاً وقف مساهمتها المالية، تلتها كندا وأستراليا وإيطاليا وفنلندا وبريطانيا، ثم هولندا وفنلندا وسويسرا. وقبلها بأسابيع، خفضت السويد من قيمة مساهمتها المالية في موازنة وكالة الغوث للأسباب ذاتها.

إقرأ أيضاً: صححوا معلوماتكم عن الكورد

إذا كنا نتفهم عدائية الموقف الأميركي تجاه وكالة الغوث واللاجئين الفلسطينيين بشكل عام، كون الولايات المتحدة شريكاً مباشراً في العدوان على الشعب الفلسطيني، فالاستغراب اليوم هو أن دولاً أوروبية تنساق خلف الولايات المتحدة في استجابتها السريعة والمباشرة للموقف الإسرائيلي تجاه وكالة الغوث، حتى قبل أن تعلن الأمم المتحدة نتائج التحقيق الذي أعلنته الأونروا، في الوقت الذي تؤكد فيه كل دول العالم أنَّ وكالة الغوث هي المنظمة الأكثر قدرة على التعاطي مع التداعيات الإنسانية للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.

وما يزيد الأمور وضوحاً هو أنَّ هذه القرارات جاءت بعد يوم واحد من قرار محكمة العدل الدولية التي أعطت البعد الإنساني أهمية استثنائية لجهة تأكيدها على ضرورة إيصال المساعدات الإنسانية للسكان في قطاع غزه. وكأن الولايات المتحدة والدول الغربية تتعمد تحدي محكمة العدل الدولية لجهة مساهمة تلك الدول بشكل مباشر في ازدياد وتفاقم الحالة الإنسانية لأبناء قطاع غزه بشكل خاص، وللاجئين الفلسطينيين الذين يعتمدون على وكالة الغوث كمصدر أساسي في تقديم الخدمات بشكل عام، ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول الأسباب الحقيقية للقرارات الغربية، والتي تنسجم بشكل مباشر مع المساعي الإسرائيلية لتصفية أعمال وكالة الغوث.

إقرأ أيضاً: طوفان الأقصى أم طوفان سليماني؟

كما تأتي القرارات الغربية أيضاً في وقت تزداد فيه الحاجة والمطالبة بزيادة دعم الدول المانحة لموازنة وكالة الغوث، في ظل الاحتياجات الإنسانية الهائلة والتي تتطلب دعماً استثنائياً من الدول المانحة، بما يجعلنا نشكك في تقصد بعض الدول المانحة تسييس التمويل وتجويع اللاجئين الفلسطينيين، واستخدام المال كوسيلة ابتزاز للضغط على الشعب الفلسطيني ومقاومته للاستجابة لمطالب الحكومة الإسرائيلية العاجزة عن تحقيقها على المستويين السياسي والميداني.

أمام كل هذه المستجدات والمخاطر الداهمة على وكالة الغوث وخدماتها وعلى قضية اللاجئين وحق العودة، فإنَّ هناك حاجة لتحركات شعبية في الضفة الغربية بشكل رئيسي وفي بلدان اللجوء والمهاجر الأجنبية لإيصال رسالة موحدة حول تداعيات القرارات الغربية والأوروبية على الأوضاع الحياتية والمعيشية للاجئين أولاً، وعلى حالة الاستقرار في المنطقة، خصوصاً في ظل اتضاح الصورة بأنَّ بعض الدول الغربية تشارك في مخطط تصفية القضية الفلسطينية وإبادة شعبنا عبر أشكال مختلفة، يشكل الضغط الاقتصادي والاجتماعي نقطة مركزية فيها.

إقرأ أيضاً: تفجيرات كرمان وإنقاذ نظام الملالي

كما يتطلب الأمر موقفاً مباشراً من دائرة شؤون اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية المعنية بشكل مباشر وبالتنسيق مع وزارة خارجة السلطة الفلسطينية من أجل التواصل مع الدول الأوروبية بشكل خاص لشرح وجهة النظر الفلسطينية وتحييد وكالة الغوث وخدماتها وتوفير الحماية السياسية لها وفقاً للتفويض الممنوح لها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأيضاً شرح التداعيات الخطيرة المترتبة على القرارات الغربية لجهة ازدياد أوضاع اللاجئين خارج فلسطين سوءاً وتفاقماً، ودعوة تلك الدول للتعاطي مع القضية الفلسطينية وعناوينها المختلفة، بما فيها عملية 7 تشرين الأول (أكتوبر)، بموضوعية وتوازن بعيداً عن الانسياق خلف الإدارة الأميركية التي تعتبر شريكاً كاملاً في مخططات إبادة الشعب الفلسطيني على مختلف المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية.

يبدو واضحاً أن عدداً واسعاً من الدول الغربية الداعمة لإسرائيل تشارك إسرائيل في البحث عن أيّ إنجاز، بعد عجز جيش الاحتلال عن تحقيق إنجاز ميداني بفعل صمود المقاومة والتفاف الشعب حولها، فكان القرار باستهداف الحاضنة الشعبية للمقاومة عبر ممارسة ضغوط اقتصادية علّها تفلح في تحقيق نتائج عجزت آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية والأمريكية الغربية غن تحقيقها.

إقرأ أيضاً: مغادرة القوات الأميركية في الميزان

فأيّ ديمقراطية هذه التي يعاقب فيها أكثر من مليوني ونصف مليون لاجئ وأكثر من 12 ألف موظف يعملون في قطاع غزة، على افتراض صحة المزاعم الإسرائيلية، وأي عدالة غربية هذه التي تعاقب أكثر من ستة ملايين لاجئ بسبب كذبة إسرائيلية لم تتأكد صحتها بعد. وكان الأولى بالدول التي علقت تمويلها أن تنتظر نتائح تحقيقات الأونروا ثم تتخذ ما يناسبها من قرارات؛ إلا إذا كان الهدف ممارسة ضغط على اللاجئين وعلى الأونروا لتمرير مخططات ومشاريع سياسية على تماس مباشر مع الأهداف المعلنة من قبل إسرائيل بتصفية وكالة الغوث وخدماتها.