ثمة لاجئ سوري في لبنان يعمل بستانيًا في حديقة عمارتنا، يبدّل ولاءه بين نظام دمشق و"هوليك الناس" أكثر مما يبدل ثيابه (حرفيًا). أسأله دائمًا، بعد كل جولة قصف على سوريا، أينما حطت الصواريخ، أن كان له أهل "هناك"، فيطمئنني في كل مرة: "كلا، أهلي هنا.. ولم يبق لي في سوريا إلا مقابر، أزورها ذات يوم".

آخيرًا، حين قصف القاذفات الاستراتيجية التي سافرت أكثر من عشرة آلاف كيلومتر من بلادها لتقصف دير الزور وجوارها، ما سألته السؤال التقليدي، لكنه بادرني قائلًا: "لسا خالتي بعدها ما قصفت سوريا".

صحيح جدًا. فمنذ قصفت الطائرات الحربية الفرنسية دمشق في تموز (يوليو) 1920، لم يبقَ أحدٌ لم يرمٍ بأثقال متفجراته على سوريا، وكأنها "أرض خراب" يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها.

قصفت إسرائيل سوريا 76 مرة خلال عام 2023 وحده. في عام 2022، استهدفت إسرائيل مواقع في سوريا 32 مرة. وبحسب "مركز جسور للدراسات"، أغارت إسرائيل على مواقع في سوريا 28 مرة في عام 2021، فقصفت 57 موقعًا، استهدفت فيها نحو 187 هدفًا. وإن شئنا العودة إلى السنوات السابقة، ابتداءً من عام 2018، لوجدناها استباحت الأراضي السورية 408 مرات، باعتراف الإسرائليين أنفسهم. فصحيفة "جيروزاليم بوست" قالت إن سلاح الجو الإسرائيلي ضرب 1200 هدف بأكثر من 5500 قنبلة في 408 غارات بين عامي 2018 و2023.

في خلال الحرب الأهلية السورية، يرتبك أي باحث مهما علت قدراته الإحصائية إن أراد رسم بيان واضح لمن قصف سوريا. فالأسماء كثيرة، والغايات أكثر: أميركا قصفت سوريا، وروسيا قصفت سوريا، وإيران قصفت سوريا، وتركيا قصفت سوريا، وجبهة النصرة قصفت سوريا، والجيش الحر قصف سوريا، وقوات سوريا الديمقراطية قصفت سوريا، وجيش الإسلام قصف سوريا، وفصائل المعارضة قصفت سوريا، وتنظيم الدولة الإسلامية قصف سوريا، وهيئة تحرير الشام قصفت سوريا، وآساييش روج آفا قصفت سوريا، وأحرار الشام قصفوا سوريا، والاتحاد الإسلامي لأجناد الشام قصف سوريا، والجبهة الجنوبية قصفت سوريا، والجبهة الشامية قصفت سوريا، والجيش الوطني قصف سوريا، ولواء أحفاد صلاح الدين قصف سوريا، وكتيبة سلطان باشا الأطرش قصفت سوريا، وحزب الله قصف سوريا، والحزب السوري القومي الاجتماعي قصف سوريا، والجيش السوري قصف سوريا...

إقرأ أيضاً: استراتيجية نظام الولي الفقيه بين أزمة غزة والأزمات الداخلية

لا أكتفي بهذا القدر من الأسماء لأنها كثيرة فحسب، بل لأن هذه ما بقيت في ذهني من قراءتي اليومية لحوادث سوريا في خلال ثمانية أعوام. كان كل حزب أو جبهة أو جهة أو جيش أو لواء من المذكورين أعلاه (ومن غير المذكورين أعلاه أيضًا) مقتنعًا أنه يقصف سوريا التي يعاديها، أو التي لا يريدها، فيتبين لنا بحساب سريع أن لا أحد من هؤلاء كلهم يريد سوريا الحقيقية، التي لا تسير سياسة في المنطقة من دونها، أكانت موالية للبعث العربي الاشتراكي أم عادت إلى عهد الانقلابات اليومية.

إن الدينامية السياسية التي تتميز بها سوريا تجعل من أي معادلة إقليمية كلامًا بلا معنى، أن لم تكن دمشق في قلبها. هذه حقيقة لا مناص منم الاعتراف بها، والارتكاز عليها عند التطرق إلى الدور الذي يجب أن تؤديه سوريا التي كانت دائمًا "قلب العروبة النابض"، حتى أتى يوم أفرغتها "الدولة البوليسية" فيها من عروبتها.

إقرأ أيضاً: القضية الكُردية ليست معارضة!

اليوم، كانت أميركا آخر من قصف سوريا، وهي تتوعدها بمزيد من القصف. مهما كان الأمر، وأيًا يكن موقفنا العربي أو الأخلاقي أو التحرري من النظام في سوريا، المنطقي اليوم أن يخرج منطق القصف من قاموس السوريين. وهذا لا ينحصر في أميركا وحدها، إنما واجب العرب أن يُخرجوا الكل من سوريا، وأن يعيدوا إليها السوريين من شتاتهم. فلا سوريا أرض الروس، ولا أرض الفرس، ولا أرض التركمان، ولا أرض الأفغان.. إنما أرض كنعان التي تتلاقح فيها القوميات والجنسيات والحضارات.

ربما على السوريين أنفسهم، قبل غيرهم، في جبل قاسيون وجبل السماق وما بينهما، أن يعودوا إلى هذه الحقيقة، وإلا يصح كما قال لي البستاني نفسه: "لسا خالتي بعدها ما قصفت سوريا".