أسس الاستبداد الديني لنظام ولاية الفقيه
اعتمد الاستبداد الديني الذي يحكم إيران، والذي يعرف باسم (ولاية الفقيه)، على عاملَين أساسيَّين منذ بداية استحواذه على السلطة في إيران. وطيلة الـ 45 عاماً التي مرت على حكم هذا النظام، لم يتمكن الخميني ولا خامنئي من الاستغناء ولو قليلاً عن هذين العاملين.
العامل الأول هو القمع الداخلي بهدف الإمساك بالسلطة بقوة. عندما كان الخميني على قيد الحياة وعلى قمة هرم السلطة، مارس القمع قدر استطاعته... حطم الأقلام وخاط الشفاه ليمنع الناس من الكلام، وقطع ألسنة المتظاهرين بإرسال مجموعات تحمل الهراوات تحت عنوان "حزب الله" انهالت بالضرب على المحتجين، وأجبر النساء المتعلمات والناشطات على البقاء في بيوتهن، وعزلهن من الوظائف القضائية والتعليمية، وحرمهن من حقوقهن الإسلامية.
ثلاثة رهائن أميركيين يتحدثون إلى وسائل الإعلام بينما يراقب محتجزوهم الإيرانيون (يسارًا ويمينًا) عن كثب في السفارة الأميركية المحاصرة في طهران، تشرين الثاني/نوفمبر 1979
خلق الخميني سلسلة من أعمال العنف والإرهاب تحت عنوان "الحكومة الإسلامية"، وقام بشرعنة الاستبداد الديني تحت عنوان "حكم الفقيه المطلق"، وأظهرت الإحصائيات ارتفاعاً مرعباً في أعداد عمليات الإعدام، وبحسب إحصائيات دقيقة للغاية، فقد أعدم النظام ما لا يقل عن 120 ألف معارض سياسي، معظمهم من أعضاء وكوادر ومؤيدي منظمة مجاهدي خلق الإيرانية.
العامل الثاني الذي يعتمد عليه النظام هو صناعة الأزمات لإضفاء الشرعية على حكمه. كانت الأزمة الأولى التي نشأت في إيران للتغطية على عدم قدرة النظام الجديد على إدارة البلاد هي احتجاز 66 دبلوماسياً أميركياً كرهائن واحتلال السفارة الأميركية في طهران، والتي استمرت لمدة 444 يوماً من 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1979 إلى 20 كانون الثاني/ يناير 1981. هذا الفعل قامت به مجموعة تسمى "الطلبة على خط الإمام"، والتي أبدت موافقة الخميني على هذا العمل، ثم أُطلق على السفارة المحتلة اسم "عش التجسس" رسمياً.
خلفت الحرب الإيرانية العراقية أضراراً في الجانب الإيراني تفوق تريليون دولار، وفي الصورة أعمدة الدخان تتصاعد من مدينة عبادان المشتعلة في 24 تشرين الأول/أكتوبر 1980
الأزمة التالية التي خلقها أمر الخميني الصريح، بصفته الفقيه المطلق، هي الحرب الإيرانية العراقية التي استمرت 8 سنوات، والتي أطلق عليها في ثقافة النظام اسم "الدفاع المقدس"، وهي حرب غير مجدية ومدمرة خلفت مليوني قتيل ومشوه فضلاً عن أضرار بألف مليار دولار في الجانب الإيراني وحده.
الأساس القانوني لصناعة أزمة نظام ولاية الفقيه
تتضمن ديباجة دستور نظام ولاية الفقيه عدة نقاط يجب أخذها بعين الاعتبار: "... مهمة الدستور هي تجسيد الأسس الدينية للحركة وخلق الظروف التي يتم فيها تربية الإنسان على القيم الإسلامية العالية والعالمية، وبالنظر إلى محتوى الثورة الإسلامية في إيران - التي كانت حركة تهدف إلى نصرة جميع المستضعفين على المستكبرين - فإن الدستور يعد الظروف لاستمراريّة هذه الثورة داخل البلاد وخارجها، خصوصا العلاقات الدولية مع سائر الحركات الإسلاميّة والشعبيّة حيث يسعى إلى بناء الأمة الواحدة في العالم (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)، ويعمل على مواصلة الجهاد لإنقاذ الشعوب المحرومة والمضطهدة في جميع أنحاء العالم".
ومع ملاحظة جوهر هذه النهضة الكبرى، فإنَّ الدستور يضمن رفض كافة أشكال الدكتاتورية الفكرية والاجتماعية والاحتكار الاقتصادي، ويسعى إلى الخلاص من النظام الاستبدادي، ومنح الشعب حق تقرير مصيره بنفسه "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم"، وبهذا يعتبر الفقيه الحاكم في إيران نفسه " الزعيم الكفؤ لجميع شعوب العالم"، ويحمل مثل هذا الحلم، وكأن العالم قرية عُمدتُها فقيه مقيم في جماران أو مخبأ شديد الحراسة في شارع باستور في طهران!
وقد نصت الفقرة 16 من المادة الثالثة من دستور النظام الفقهي الإسلامي على قيادة الفقه الإسلامي لأهل العالم على النحو التالي:
16- تنظيم السياسة الخارجية للبلاد على أساس المعايير الإسلامية والالتزام الأخوي لجميع المسلمين والدعم غير المشروط للمستضعفين في العالم. لقد أرست هذه الفقرة من الدستور أساس السياسة الخارجية لنظام ولاية الفقيه وتم تنفيذها بأقصى قدرة من قبل واضعي السياسات ومنفذيها، ومؤشر هذه السياسة الخارجية (العالمية) كان (الإجراءات) التي اعتبر بها قاسم سليماني (رجل الميدان) وأشاد به خامنئي مراراً وأعلن الحداد العام بعد مقتله، وهو الذي أرسل مئات الآلاف من الشعب السوري إلى الموت في حرب مدمرة وجعل الملايين منهم مشردين وبلا مأوى، وحوّل مدن سوريا إلى أنقاض، وسكب ما لا يقل عن خمسين مليار دولار من ثروات الشعب الإيراني في أتون الحرب في هذا البلد، والتي لا تزال تداعياتها مستمرة.
لماذا يحتاج نظام ولاية الفقيه إلى خلق الأزمة؟
بما أن نظام ولاية الفقيه رجعي ومتخلف ويمثل انعكاساً للحكومة الدينية في العصور الوسطى، وعاجز تماماً عن الاستجابة لاحتياجات المجتمع الإيراني والتفاعل البناء مع العالم اليوم، فقد تحول حتماً إلى القمع الداخلي وصناعة الأزمات الخارجية وهو في طريق مسدود. والأمثلة على الأزمة الخارجية التي يعاني منها النظام في دول الشرق الأوسط واضحة ولا يمكن إنكارها، فقد قدم نظام الولي الفقيه دعماً عسكرياً ومالياً وسياسياً شاملاً للحرب في سوريا، وخلق أزمة سلطة وانهياراً سياسياً في لبنان من خلال حزب الله، وخلق الفوضى في اليمن من خلال الحوثيين، وخلق الخلافات والانقسامات في الحكومة العراقية من خلال قوات تابعة له تحت اسم الحشد الشعبي، كل ذلك في انعكاس لسياسة صناعة الأزمات التي ينتهجها نظام ولاية الفقيه في المنطقة، والتي وردت في دستور نظام ولاية الفقيه تحت عنوان "أمَّة مسلمة أو أمَّة موحدة".
إنَّ الأزمة التي نشهدها حالياً في غزة هي مظهر آخر من مظاهر صناعة الأزمة التي يقوم بها نظام ولاية الفقيه. لقد ناقش الخبراء والمحللون هذه القضية وعلقوا عليها بآراء مختلفة، لكنهم لم يذكروا كثيراً الدور المدمر للغاية للنظام الإيراني وكيف يحتاج نظام ولاية الفقيه إلى هذا الترويج للحرب وصناعة الأزمات.
منذ بداية أزمة غزة، اتخذت المقاومة الإيرانية (المعارضة لنظام الولي الفقيه)، بفهمها العميق لطبيعة هذا النظام، موقفاً مفاده "رأس الأفعى في طهران". ربما كانت هذه العبارة غير مألوفة لدى الكثير من المحللين والسياسيين، أو أنها كانت غير سارة لضرورة سياسية ومصالح اقتصادية، لكن الواقع كشف عن نفسه شيئاً فشيئاً، وتدريجياً أكدت الأقلام والتحليلات والأحاديث صحة هذا القول، وكشفت الدور المدمر لنظام ولاية الفقيه.
أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة حتى الآن 70 مرة النظام الإيراني بسبب الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان والإعدام التعسفي للأطفال والنساء
جدير بالذكر أنَّ أكثر من 200 من ضحايا نظام ولاية الفقيه تم إعدامهم منذ بداية أزمة غزة، وهكذا نقول إنَّ صناعة الأزمات الخارجية هي للتغطية على القمع الداخلي. لقد نفذ النظام الإيراني أكبر عدد من عمليات الإعدام في العالم مقارنة بعدد سكانه، ولهذا السبب تمت إدانته دائماً من قبل المنظمات الدولية، وقد تمت إدانته حتى الآن 70 مرة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بسبب الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان والإعدام التعسفي للأطفال والنساء.
إن النظام الإيراني، الذي يدرك تمام الإدراك أن الرأي العام العالمي يركز حالياً على أزمة غزة، لجأ إلى عمليات الإعدام المتسرعة من أجل التخلص السريع من المعارضين في الظل.
نقطة البداية لإثارة الحروب والإعدامات الجماعية
إن مصير الدكتاتورية الحاكمة في إيران من جهة، والشعب الإيراني والمقاومة من جهة أخرى، قد وصل إلى موقع تحديد المهمة، لقد اصطف الشعب إلى جانب المقاومة الإيرانية ضد الدكتاتورية الدينية، وكل يوم يمر، تتزايد النظرية القائلة بأن الحرب الحقيقية هي بين الدكتاتورية الحاكمة والشعب الإيراني والمقاومة، ويركز خامنئي، باعتباره صانع القرار الرئيسي، على منع عودة انتفاضة من نوع الانتفاضات الماضية، بما في ذلك انتفاضة 2022 التي عمت جميع محافظات إيران، إنه يحاول أن لا يفقد هيمنته بأي طريقة ممكنة، ولهذا السبب، كثف القمع في الداخل، وخلق أزمة في البعد الخارجي، واستخدم قواته في حروب بالوكالة.
إنَّ أزمة غزة هي انعكاس لهذه الأزمة الإقليمية التي لا يمكن تجاهلها. لقد قال خامنئي مراراً وتكراراً في خطاباته إنَّ العمق الاستراتيجي لنظامه هو "ساحل البحر الأبيض المتوسط"، وقال إنه إذا لم يغلق خط الدفاع في سوريا ولبنان والعراق، فسيتعين عليه القتال في مدن إيران. إذا كانت هذه المحادثات في يوم من الأيام غير مفهومة وغير قابلة للتفسير، فلا شك الآن في أنَّ خامنئي يحتاج إلى المزيد من القمع الشديد داخلياً ويلجأ إلى خلق الأزمات وتصديرها من أجل منع انتفاضة الشعب، لكن فات أوان إخفاء هذا الخداع والتستر عليه الآن، وكل أصابع الاتهام موجهة نحو نظام ولاية الفقيه.
التعليقات