"إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحيي دينه"؛ هکذا قال محمد إقبال في رائعته "حديث الروح"، وقبله تحدث جمال الدين الأفغاني عن التجديد والحداثة في الفکر الديني، وفي الأمرين ثمة علاقة واضحة، ذلك إن إحياء الدين بالمعنى الذي يقصده إقبال هو بعثه من جديد، والتجديد والحداثة التي يتحدث عنها الأفغاني هي قطعاً إسباغ طابع المعاصرة على الدين، أي جعله مناسباً ومتلائماً مع روح العصر، لکن کل ذلك مع احتفاظ بروح الأصالة للدين، ذلك أنَّ مخاطبة العالم بالمنطق الديني في هذا العصر بما کان سائداً في عصر الخلافة مثلاً، سيکون حديثاً غير مجد ولن يٶتي أکله کما يرجى له، بل وحتى يمکن أن يحدث العکس من ذلك تماماً.

منذ أواسط النصف الثاني من الألفية الماضية، وتحديداً منذ العقدالسابع منه، ساد الحديث عن التجديد والحداثة في الفکر الديني وظهر رجال دين وحرکات وتنظيمات دينية تزعم أنها تبشر بذلك. لکن عندما نلقي نظرة متفحصة على ما قد نجم عن کل ذلك، نجد الحصيلة آتوناً من الضباب والضياع والتناقضات الفکرية الحادة الناجمة عن الخط العام للأفکار والمبادئ الرئيسية التي تم طرحها بهذا الصدد.

عندما نراجع ما قد حدث في العقود الثلاثة الأخيرة من الألفية الماضية وبدايات الألفية الجديدة من أحداث وتطورات تتعلق بالسياق الذي نتناوله، نجد أنفسنا أمام معمعة تشبه المعمعات التي حدثت في عصور تراجع وانحطاط وسقوط الخلافات الإسلامية، حيث تسود الفتن والصراعات الدموية والمذهبية بطرق وأساليب وأشکال شتى، وتظهر طرق وأساليب الاستغلال المتباينة للعامل الديني ببعده المذهبي بشکل خاص، والأهم من ذلك أنَّ کل هذا لا يمکن أن نجد له من تفسير سوى ما قاله ابن خلدون بهذا الصدد من أن "الفتن التي تتخفى وراء قناع الدين تجارة رائجة جداً في عصور التراجع الفكري للمجتمعات"، إذ أن تلك العصور والفترات التي نتناولها تکاد أن تشترك بنفس الموضوع، وأقصد هنا تحديداً العقد السابع والتاسع من الألفية الماضية، وبشکل خاص بعد الثورة الإيرانية التي فتحت الباب للأسف لأسوأ نظام ديني استبدادي في العصر الحديث.

قيام نظام ولاية الفقيه في إيران وتأسيس نظام طالبان في أفغانستان وانهياره وعودته من جديد وإعلان دولة الخلافة الإسلامية من جانب داعش، ثلاثتها "شاءت أم أبت" عاشت وتعيش في حالة من الاغتراب والانعزال الفکري عن المجتمعات الإسلامية التي تأسست فيها، وثلاثتها صارت مضرباً للأمثال من حيث تماديها في الاستبداد والقمع وإرهاب، ليس مجتمعاتها فقط، بل وحتى العالم، فهذه التجارب الثلاث صارت للمجتمعات الإسلامية قبل غيرها بمثابة قصص تثير الخوف والرعب، تتشابه تماماً مع تلك التي کانت الأمهات الأوروبيات تروينها لإطفالهن بخصوص الأتراك في عهد الدولة العثمانية.

السٶال هو: هل هذه النماذج الثلاثة تمثل إحياءً وتجديداً في الفکر الديني، وهل إنها مناسبة للمعاصرة في هذه الفترة الزمنية؟ ما الجديد الذي أتت به هذه النماذج؟ هل جاءت بغير الاحتراب والتصارع وإثارة الحروب والانقسامات وبث الخوف والرعب بکل أنواعه؟ وقد يعترض البعض بأن ينبري للدفاع عن نظام ولاية الفقيه، والقول إنه يدعو للوحدة بين المذاهب الإسلامية وجعل العالم الإسلامي قوة متحدة، لکن أي وحدة قد حدثت بين المذاهب الإسلامية على يد هذا النظام؟ ولکم في تجاربه العملية التي قام بها في العراق ولبنان وسوريا واليمن خير مثال، لا سيما إذا ما تذکرنا عمليات الذبح والإبادة التي جرت بعد تفجير مرقدي الإمامين العسکريين في سامراء عام 2006! ناهيك عن أنَّ الاختلاف قد زاد بعد مجئ هذا النظام، ولم يتراجع أو يضمحل، وما نراه ونلمسه بعد مجئ هذا النظام هو انتشار مفاهيم ومصطلحات من قبيل (الاستبصار)، أي يصبح السني شيعياً و"الإسلام المحمدي الأصيل"، أي الإسلام کما يطرحه ويدعو إليه نظام ولاية الفقيه، و"الإسلام الأميرکي"، وهو الإسلام الذي ألفته بلدان العالم الإسلامي وتتعبد وفق طقوسه التي ألفناها أباً عن جد.

دولة الخلافة الإسلامية الداعشية تلاشت غير مأسوف عليها، أما دولة طالبان فتعيش حالة من التقوقع الذاتي حتى تکاد أن تکون معزولة عن العالم، لا من أجل شئ إلا في سبيل بقائها واستمرارها، بل حتى إن وجودها يکاد يشبه عدمه. أما نظام ولاية الفقيه، فإنه مستمر لحد الآن بسبب من عاملين، أولهما: ممارساته القمعية الاستبدادية التي تفوق بها على سلفه نظام الشاه، وثانيهما بسبب من أذرعه في بلدان المنطقة والتي تقاتل نيابة عنه وتتصرف تماماً مثل المثل القائل: "أکل زيد الحصرم وتضرس أسنان عمر"! فهذه الأذرع تحملت وتتحمل کل الآثار والتداعيات السلبية لما تقوم به من دور في تنفيذ المخططات، وکذلك الحروب بالوکالة، وصولاً إلى الحرب الضروس في غزة والتي يسعى هذا النظام بمختلف الطرق والوسائل لتوجيهها وتوظيفها لصالحه، فيما يقطف ذلك القابع في جماران ثمار هٶلاء المتضرسة أسنانهم، والأنکى من کل ذلك أنَّ وسائل الإعلام الرسمية للنظام تصفه بـ"ولي أمر المسلمين"!!!!