مساء يوم الخميس 15 شباط (فبراير) انطلقت وسط ساحة بوتسدام الشهيرة في العاصمة الألمانية الدورة 74 لمهرجان برلين السينمائي الدولي الـ"برليناله" من 15 ولغاية 25 شباط (فبراير) 2024. وتنعقد هذه الدورة في ظرف يواجه فيه العالم العديد من النزاعات والحروب في العديد من المناطق، أخطرها ما يجري في غزة من حرب إبادة جماعية لا يتخيلها العقل البشري. ويتعرض الأبرياء من بينهم الأطفال والنساء والشيوخ والإعلاميين للقتل والاختطاف، الأمر الذي أدى إلى هجرة الآلاف منهم إلى أماكن مكتظة دون مأوى، حيث يعانون من الجوع والأمراض والحنين لذويهم المفقودين. ويبدو أنَّ القتل والدمار لا حدود له، وليس ثمة يقظة ضمير إنساني يسعى لوقفه ووضع حد للقتل الجماعي بدم بارد.

في المؤتمر الصحفي للجنة التحكيم العالمية الخاص بعملها، الذي انعقد صباح يوم الخميس 15 شباط (فبراير)، أكد عضوا اللجنة، المخرج الأسباني آلبرت سيرا والمخرج الألماني كرستيان بيتزؤلد، معارضتهم للحرب على غزة، رداً على سؤال طرح عليهما يتعلق بتوقيعهما على بيان عالمي ضد الحرب ويدعو لإيقافها فوراً. وفي كلمتها المقتضبة أمام الضيوف من الوسط السينمائي والثقافي والإعلامي والسياسي في حفل افتتاح المهرجان في صالة العروض الرئيسية، دار "البرليناله"، عبرت مديرة المهرجان مارييت ريسنبيك عن قلقها عما يجري في الشرق الأوسط بالقول: "نحن الفنانون والمثقفون والإعلاميون، تقع، مسؤولية الدفاع عن الديمقراطية والسلام والعمل لإيقاف الحرب وقتل الأبرياء في غزة".

وكانت إدارة مهرجان "البرليناله" الثنائي، المنتجة السينمائية مارييت ريسنبيك المدير العام، وكارلو شاتريان المدير الفني للمهرجان، قد أصدرا بياناً مشتركاً جاء فيه: توفر المهرجانات السينمائية مساحة للتعبير الفني وتتيح الحوار السلمي حول الحرب في الشرق الأوسط. إنها أماكن للقاء وتبادل الآراء بشكل مهم في التفاهم الدولي. نحن نؤمن أنه من خلال قوة الأفلام والمناقشات المفتوحة يمكننا المساعدة في تعزيز التعاطف والوعي والتفاهم - وخصوصاً في الأوقات المؤلمة التي تحدث الآن. نشعر بالقلق من انتشار معاداة السامية والمشاعر المعادية للمسلمين وخطاب الكراهية في ألمانيا وفي جميع أنحاء العالم. كمؤسسة ثقافية، فإننا نبذل كل ما في وسعنا لمعارضة أي شكل من أشكال التمييز والدعوة إلى التفاهم بين الثقافات المختلفة.

إقرأ أيضاً: خيارات جديدة في مهرجان برلين السينمائي العالمي 2012

والجدير بالذكر أنَّ إدارة مهرجان روتردام السينمائي الدولي، هي أيضاً قد بادرت لإصدار بيان قيّم قبيل انطلاق الدورة الثالثة والخمسين، في الفترة من 25 كانون الثاني (يناير) حتى 4 شباط (فبراير) 2024. جاء فيه: نريد أن تتم ملاحظة معاناة جميع ضحايا الأزمات الإنسانية، وأن يفتح برنامجنا وجهات نظر مختلفة حول مدى تعقيد العالم وما يجري في الشرق الأوسط وخارجه "في إشارة إلى ما يحدث في غزة" من صراعات يذهب ضحيتها آلاف الأبرياء.

في دورته الرابعة والسبعين، على ما يبدو، أن مهرجان برلين السينمائي يعاني العديد من المشاكل. إذ كان عليه أن يواجه عدد من السلبيات، أسوأها قلة التمويل وآثار جائحة كورونا التي سببت المزيد من المشاكل ومنها سحب الرعاة دعمهم وإغلاق دور السينما. في تموز (يوليو) 2023، أعلن أن برليناله سيتعين عليها قبول تخفيضات هائلة ومن المحتمل أن تقلل عدد الأفلام المعروضة في السابق بنحو الثلث، من 287 إلى 200 فيلم. بالإضافة إلى ذلك، تم إلغاء قسمين بالكامل، بما في ذلك "منظور السينما الألمانية" لإنتاج المواهب الشابة.

إقرأ أيضاً: من أجل التغيير ومحاربة الفساد

مع ذلك سيظل مهرجان برليناله يقدم 120 فيلماً أكثر من مهرجانات البندقية أو كان. ومن الممكن أن يخدم التخفيض درجة معينة من التركيز ويؤدي إلى تبادل أكثر كثافة حول الأعمال الأساسية في برليناله، وهو ما لم يحدث حتى الآن إلا نادراً بسبب الوفرة الهائلة للعروض. إلا أن الناقد السينمائي الألماني باتريك ويلينسكي يشير: "إنه في ظل الوضع المتوتر العام، يشعر المهرجان بالتخلي عنه من قبل السياسة الثقافية للحكومة الفيدرالية". لذلك فهو يود أن يرى المزيد من الالتزام ومساراً أوضح من الحكومة الفيدرالية وأيضا من مدينة برلين.

لكن السؤال: ما الذي غاب عن السياسة؟

بالرغم من أنَّ مهرجان برلين السينمائي الدولي "برليناله"، يعد أكبر مهرجان جماهيري في العالم في مجال صناعة السينما، إلا أنه لم يكن أبداً مرموقاً للسياسة الثقافية عند أصحاب القرار. هذا لا يظهر فقط بالتمويل غير المستقر والمناظرات السياسية حوله، ولكن أيضاً في البنية التحتية الكارثية للمهرجان، التي تجعله أن يستمر في التسول من أجل إيجاد دور سينما يمكن عرض الأفلام فيها وجمع ثلثي ميزانيته البالغة نحو 32 مليون يورو. غير أن الناقدة السينمائية والصحفية الألمانية كاتيا نيكوديموس تؤكد: "بأن السياسة مطلوبة بالفعل الآن"، تقصد بذلك، المواجهة بدلاً من الاحتجاج بصوت عال، لإنقاذ المهرجان بشكل عاجل من أجل السينما لتكون متاحة. مما يتعين على المدير "الجديد" كما تشير، أن يتصرف في المستقبل بشكل أكثر حنكة باعتباره "جهة اتصال بين مدينة برلين والسياسة الفيدرالية والجمهور".

إقرأ أيضاً: العراق وأميركا.. الثابت والمتغير في سياسة المصالح!

في دورته الرابعة والسبعين تشارك في البرليناله أفلام عالمية من 30 دولة. يتنافس على جائزتي الدب الذهبي والفضي في المسابقة الرئيسية 20 فيلماً، من بينها لاول مرة فيلمين وثائقيين... وسيتم عرض 19 فيلماً في العروض العالمية الأولى. ستة أفلام منها أخرجتها أو شاركت في إخراجها نساء. ويقدم تسعة مخرجين أعمالهم، ستة منها في المنافسة... المهم، أنَّ مهرجان هذا العام، استطاع أن يوازن بين صانعي الأفلام المرموقين والأصوات الجديدة القوية في السينما المستقلة. أحد الجوانب المهمة ايضاً، هو تنوع القصص التي تروى والأشخاص الذين يروونها. يقول كارلو شاتريان، المدير الفني: "الأمر الأكثر إثارة هو الثراء الأسلوبي، الذي يظهر الإمكانات البعيدة المدى للغات الأفلام المختلفة".

التركيبات والعروض المختارة لأفلام هذا العام في جميع أقسام المهرجان (منافسة، لقاءات، شورت برليناله، بانوراما، المنتدى، أجيال، كلاسيكيات برليناله) تلفت الأنظار في الغالب إلى المجتمعات - تكوينها ونقاط الانهيار والمخاطر والقيود التي تتعرض لها. المسارات الملتوية التي يضنون من خلالها في كثير من الأحيان استمرار وجودهم، أصبحت واضحة. الروابط الدائمة بين العائلات والقرابات الإختيارية تعمل على تقويض الأعراف الاجتماعية. إعادة استخدام الأشياء والمواد اليومية بشكل مجاز لاستكشاف الشبكات المخفية التي تصبح عقدها المتنوعة مرئية في أماكن غير متوقعة، تفسد استحضار التضامن والتماسك والأمل.

في دورته التاسعة عشرة على هامش المهرجان، يقدم قسم (فوروم) 21 عملا سينمائياً من 21 دولة. وقسم (شبسيال) 20 فيلما مميزاً من 20 دولة مشاركة. فيما يتنافس على جائزة أفضل فيلم أول في اقسام المسابقة (اللقاءات والبانوراما والمنتدى والجيل) هذا العام 16 فيلماً، وتقرر لجنة تحكيم مكونة من ثلاثة أعضاء: إليزا هيتمان (الولايات المتحدة الأميركية)، وأندريا بيكارد (كندا)، وكاترين بورس (الدنمارك) اختيار الأفضل للجائزة. اهتم مهرجان برلينالة أيضا بشكل مكثف بصانعي الأفلام الشباب من خلال تقديم جائزة لأفضل فيلما أول . تبلغ قيمة الجائزة 50 ألف يورو، ترعاها جمعية إدارة حقوق السينما والتلفزيون (GWFF). يتم تقاسم الجائزة بين مخرج ومنتج الفيلم الحائز على الجائزة.

إقرأ أيضاً: بعد الانتخابات... العراق إلى أين؟

لجنة تحكيم دولية مشهورة تم اختيارها لهذا العام من قبل المدير الفني للمهرجان: الممثلة والمخرجة والمنتجة والمؤلفة لوبيتا نيونغو (كينيا/ المكسيك) تترأس لجنة التحكيم الدولية. أما أعضاء لجنة التحكيم الآخرون فهم الممثل والمخرج برادي كوربيه (الولايات المتحدة الأميركية)، والمخرجة آن هوي (هونغ كونغ، الصين)، والمخرج كريستيان بيتزولد (ألمانيا)، والمخرج ألبرت سيرا (إسبانيا)، والممثلة والمخرجة ياسمين ترينكا (إيطاليا)، والكاتبة أوكسانا زابوشكو (أوكرانيا). ستقرر منح الدب الذهبي والفضي للافلام الـ20 المشاركة في المسابقة. وسيتم في دار "برليناله" يوم 24 شباط (فبراير) الإعلان عن الفائزين. وتمنح لجنة التحكيم الدولية الجوائز التالية: الدب الذهبي لأفضل فيلما (للمنتجين) الدب الفضي لأفضل (مخرج) الدب الفضي لأفضل (أداء تمثيلي في دور قيادي) الدب الفضي لأفضل أداء تمثيليا (في دور داعم) الدب الفضي لأفضل (سيناريو) والدب الفضي (للإنجاز الفني المتميز).

إقرأ أيضاً: العراق أسير الصراعات السياسية والفئوية

المثير للسرور مشاركة فيلم أردني لمؤسسة افلام فلسطينية ـ الأردن، سيناريو وإخراج براندت أندرسن: The Strangers’ Case (قضية الغرباء) وإنتاج براندت أندرسن، أسامة بواردي، ريان بوسه، تشارلي إنديان. يعالج رؤية الشخصية التاريخية السير توماس مور للدفاع عن اللاجئين في مسرحية شكسبير قبل أربعة قرون. يبلغ ذروته في إشارة مؤثرة إلى الحاضر: حلب، في خضم الحرب الأهلية السورية. أميرة، جراحة أطفال، تجري عملية جراحية منقذة للحياة خلال أحلك أيام الصراع. من خلال تطور غير متوقع، أصبحت هي وابنتها شخصيتين رئيسيتين في قصة درامية تتشابك حياة خمس عائلات في أربع قارات وتعيد تعريف وجودهم.