في ثمانينيات القرن الماضي، كانت بيروت مسرحًا دائمًا للسيارات المفخخة والحروب الكبرى والمعارك الصغرى واشتباكات الأزقة وغيرها، فما كانت شمس يوم تغرب من دون قتلى (شهداء طبعًا) وجرحى يتوزعون على المستشفيات. حينها، عمّمت إحدى وكالات الأنباء العالمية الناشطة في بيروت (ما زالت) على محرريها ألا ينشروا خبرًا على مقتلةٍ حصلت "إلا إذا زاد عدد ضحاياها عن 14 قتيلًا". بمعنى أوضح، 13 قتيلًا لا يستحقون أن يتصدر خبر مقتلهم إرسالية الوكالة لوسائل الإعلام، فخبرهم ليس خبرًا.

تذكرت هذا الأمر اليوم إذ كنت وصديقي الفتحاوي السابق نتابع تفاصيل المقتلة اليومية في غزة. ففي خمسة أشهر، زاد عدد القتلى هناك على 30 ألفًا، وصارت غزة خبرًا لا مناص من تداوله "مانشيت صفحة أولى" بلغة الصحافة، "بالبنط العريض" أيضًا في صحف كبرى، ليس أقلها "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" و"وال ستريت جورنال" الأميركية، حتى أدرك الإسرائيليون اليوم أنهم أخطأوا حين تعالوا على النصيحة الأميركية بالحد من عدد القتلى المدنيين في غزة. قال لي صديقي الفتحاوي السابق: "إن الضجيج الذي أثاره هذا القتل الجماعي للفلسطينيين منع العالم من تصديق رواية ’الضحية الإسرائيلية التي تعرضت لكل أنواع القتل في هجوم دام يومين في 7 أكتوبر‘، وجعل من آلة القتل الإسرائيلية الأميركية الصنع ’نمرًا من ورق، لا يقوى إلا على نساء غزة وأطفالها‘".

اليوم، صديقي هذا مقتنع تمامًا بأن الكابينيت الحربي الإسرائيلي قرر تصحيح هذا الخطأ. ثمة سياسة قتل جديدة يا سادة: "لن يموت الفلسطينيون بالآلاف يوميًا... بل بالمئات فقط، وربما 100 اليوم، و50 غدًا، ببطئ وتمهل، ولو طال الأمر شهورًا خمسة أخرى. هكذا، لا تبقى غزة خبرًا، وفي النهاية لا تبقى غزة، وما بعد النهاية لا يبقى حل الدولتين". وثمة سياسة تغطية جديدة يا سادة: "هيا بنا نرمي لهم الطعام من نوافذ الطائرات في عمليات استعراضية سينمائية، ونرجمهم بالمساعدات من فوق الغيم، فيرى العالم كيف تنقذ أميركا الإنسانية. وهيا بنا نقيم رصيفًا بحريًا على شاطئ غزة يرسو فيه ممر بحري أوله في قبرص، لندخل المساعدات للجياع في القطاع".. وهكذا، لا يرى العالم أن آلاف الأطنان من المساعدات المكدسة في شاحنات طويلة تتلف عند بوابة معبر رفح، على بعد خطوتين من أول خيمة لنازحين من شمال القطاع، لأن العالمين العربي والإسلامي عجزا عن الضغط لإدخالها إلى القطاع، هذا إن أحسنّا الظن طبعًا، وإلا قلنا إن المعبر البري "لا استعراض فيه ولا طبل ولا زمر ولا صور في الصحف ولا تبجيل ولا تدليس ولا دجل". لست أنا من أقول هذا، إنما صديقي الفتحاوي السابق طبعًا.

وهكذا، ينسى العالم 98 صفقة سلاح سرية بين واشنطن وتل أبيب منذ 7 أكتوبر، لم يعرف الكونغرس الأميركي بأمرها إلا أخيرًا على ذمة "نيويورك تايمز". وهكذا، ينسى العالم "فيتو" واشنطن المسلط على مجلس الأمن لمنع المجتمع الدولي من لجم إسرائيل ووقف المقتلة. وهكذا، لا ينتبه أحد في العالمين أن الرصيف البحري الأميركي على شاطئ غزة سيعوم فوق بئر للنفط، وأن النية الأميركية معقودة على تميلك إسرائيل غزة ومنطقتها الاقتصادية كلها.

ثمة سؤال يراود بعض الفلسطينيين اليوم: "تأتي السفن محملة بالمساعدات إلى غزة، فهل تغادر الرصيف الأميركي فارغة؟ أم تحمل معها مَن تيسر مِن الفلسطينيين إلى شتات جديد؟". وثمة سؤال آخر يراود الفلسطينيين أيضًا، حتى إنهم يجاهرون به أكثر الآن: "أكنا بحاجة فعلًا إلى هذه الحرب؟ أما كان يحيى السنوار وزمرته يعلمون أن إيران لن تنصرهم، لا بحزب الله ولا بغيره، ولا حتى بأنصار الله الحوثيين؟".

لا مكان هنا إلا للدموع. فلو فلسطيني واحد في هذا العالم في عامه الثالث تساءل عن جدوى "مجد طوفان الأقصى" بعدما أودى بحياة آلاف الناس، فهذا أدعى إلى التشكيك بهذه العملية برمتها. فعلًا، لا مكان إلا للدموع هنا، أراها تحرث خد صديقي الفتحاوي السابق بصمت وهو يقول: "لا فضل للسنوار على نتنياهو إلا بالتقية.. ولا فضل لأبي عبيدة على هاغاري إلا بالسبابة.. ولا فضل لأحد على فلسطين؛ لا حماس ولا جهاد، ولا فصائل السلطة أجمعين".