تدرك غالبية شعوب الشرق الأوسط إلى حد ما لعبة الحروب الحديثة وأطماع ونوايا المتحكمين بها وغاياتها، كذلك الأمر بالنسبة إلى شعوب أوروبا وأميركا، لكنما بمفاهيم أكثر وضوحاً من شعوب الشرق، كما أنَّ غياب البحث والتدقيق حول مجرياتها وتسارعها أو التشويش المتعمد من خلال الفاصل الزمني بين أحداث دولة وأخرى من الدول التي تتعرض شعوبها للاضطهاد والقمع والقتل، يؤدي إلى طمس الحقائق من جهة، والتهرب من المسؤولية من جهة أخرى، بحجة توالد وتتالي الأحداث والنكبات.
بداية من العراق، والذي كان الشرارة الأولى في انبثاق الفوضى والتطرف إلى دول الجوار بعد حرب 2003 وسقوط نظام البعث، ولِما هو دون غيره من الدول الأخرى، مع أنَّ السبب الرئيسي وراء ذلك معلوم لدى الجميع، ان النظام الحاكم ما قبل 2003 كان نظاماً قمعياً لشعبه ولشعوب المنطقة من خلال تدخلاته وأطماعه الخارجية وإعلانه الحرب على بعض الدول، بما فيها دول عربية شقيقة، وبالتالي تسهيل مهمة أن تكون بلاده في أي حدث ما محل فوضى عارمة.
في حين تحولت الساحة العراقية إلى ساحة صراعات داخلية ممولة (خارجياً)، لم تكن غالبية الشعب العراقي آنذاك تملك تلك الرؤية حول التطور الحاصل في عصر الألفية، فقد كان النظام الحاكم يحجب عنها الرؤية للعالم الخارجي، من خلال منع جميع أنواع التكنولوجيا الحديثة من اتصالات وأقمار صناعية للوصول إليهم وبث الرعب في نفوسهم، الأمر الذي سهل للقوى المعادية للبشرية ولحقوق الإنسان استغلال فئة من العراقيين وتجنيدهم ضمن فصائل وميليشيات ودفعهم باتجاه سياساتهم العدائية والعدوانية في تخريب العراق أولاً، ثم تصديرهم إلى دول أخرى لذات الغاية ولتلك الأهداف، وبعدها المساومة عليهم من خلف الستار بين ملفاتهم الأمنية والعسكرية والاقتصادية العالقة مع الدول الكبرى محلياً ودولياً، ويبقى العراق والشعب العراقي وحده الخاسر ومن دفع وما زال ضريبة تلك الأجندات والسياسات الفاشلة.
ومن هنا لا بد لنا من التنويه إلى:
أولاً: خروج تنظيم داعش الارهابي إلى الظهور في حزيران (يونيو) 2014 واحتلاله الموصل والكثير من المناطق فيما بعد، ثم الهجوم على اليزيدين وارتكاب مجازر بحقهم، ومحاربتهم المكون الكردي والهجوم على إقليم كوردستان من عدة أطراف لم يكن وليد الصدفة، بل تم التخطيط له من قِبل ذات الدول العدائية واستغلال ذات الفئة من العراقيين الذين تم استغلالهم من قبل لتنفيذ ذاك المخطط. لم يأت الدواعش من كوكب آخر، هم ذاتهم من أبناء المنطقة الذين تم التغرير بهم سواء بالمال أو بالفكر أو بالقوة بهدف تدمير العراق وإنهاء كيان إقليم كوردستان، وفي نفس الوقت لم تكن مصادفة أن بعض المناطق التي احتلوها في ذاك الوقت، يستولي عليها الآن فصائل وميليشيات تحت مصطلحات عراقية مختلفة، رغم أن إقليم كوردستان وقوات البيشمركة قدمت تضحيات كبيرة في سبيل دحر الإرهاب وإخراج داعش، وفرضت الأمن والأمان، وقامت بتطوير تلك المناطق وإعمارها ونشر ثقافة المحبة والسلام والتعايش السلمي بين سكانها، وهذا ما أزعج الدول صانعة التطرف والإرهاب في المنطقة، التي لجأت في ما بعد للاستمرار في ضرب الاستقرار وانتهاج سياسة التخريب والتدمير.
إقرأ أيضاً: بين أربيل وبغداد ميزان العدل
ثانياً: هاجمت بعض الفصائل والميليشيات العراقية محافظة كركوك عام 2017، وقامت باحتلال ونهب البيوت وتهجير سكانها الأصليين، تحت راية العلم العراقي المرفوع إلى جانب أعلامهم الطائفية، وكان المخطط يهدف إلى اشراك قوات البيشمركة في معركة داخلية ودفعهم نحو سفك الدماء وخلق فتنة بين الأشقاء من الكورد والعرب والمسيحيين، ثم اتساع رقعتها كي تشمل كامل الجغرافيا الكوردستانية والعراقية، لكن المفاجأة كانت بعكس توقعاتهم، فحكمة القيادة البارزانية في أربيل وتمسكها بمبادئ السلام والمحبة والأخوة المتوارثة عبر الأجيال، ورجاحة العقل التي تتصف بها، عكست التوقعات والمخططات، لا بل صدمت منفذيها في وقف تلك الفتنة، وكان حزب الديمقراطي الكوردستاني في حالة الدفاع عن النفس وعن الأرض والشعب، ورغم أنَّ تلك الفصائل والميلشيات تعمدت قصف المدنيين والبنية التحية بهدف التوجه لاحتلال أربيل، إلا أن البيشمركة ظلت تتفادى أي اصطدام مباشر لإطفاء تلك الفتنة وانهاء ذاك المخطط، وكان الهجوم هو ذاته هجوم داعش في 2014 لكن بتسمية مختلفة واعلام ورايات مختلفة.
ثالثاً: بعد نجاح إقليم كوردستان في الحفاظ على السلام والشراكة مع بغداد وارساء ثقافة المحبة بين الكورد والعرب، وبعدما افشلت مخطط الهجوم العسكري على أربيل، لجأت الدول المعادية للحرب الاقتصادية على الإقليم وشعبه من خلال التحكم في مؤسسات حكومة بغداد واصدار قرارات غير شرعية وغير منصفة، بإيقاف تصدير نفط كوردستان ووقف ارسال رواتبهم، وكذلك احتكار المنافذ الحدودية، في حرب جديدة لإضعاف اقتصاد الإقليم ودفعه للرضوخ وتقديم الطاعة لأعداء السلام والانسانية، ومحاولة فتح ممرات لتمرير ارهابهم إلى دول الجوار والخارج.
إقرأ أيضاً: سياسة واشنطن تتغير والكورد ضحية التناقضات
من المؤسف أن سياسة الحرب الاقتصادية باتت رائجة نوعاً ما، لا سيما بعد أن أصبحت جميع أوراق اللاعبين ووكلائهم في الشرق الأوسط مكشوفة وواضحة، ورغم مناشدة إيران وتركيا بالعدول عن مواقفهما العدائية تجاه الكورد والعرب، ومطالبتهما بالاعتراف بالمكونين الكوردي والعربي شريكين لهما في المنطقة، وبأن هذين المكونين هما أصحاب تاريخ وأرض وإرث حضاري متجدد، إلا أن الدولتين ما زالتا تعيشان وهم الإمبراطوريتان الفارسية والعثمانية، ورغم أن الصراع الرأسمالي والاشتراكي انتهى، وأصبح صراع هدر اقتصاد دول الشرق الأوسط، ما زالت واشنطن وموسكو غير متفقتان على تقاسم النفوذ، رغم أن الشعوب كانت قادرة على تغيير المعادلات، إلا أن الحرب الاقتصادية تفرض بثقلها، وتشتت الشمل في رص الصفوف نحو بناء أوطان حضارية.
مجمل هذه الأمور وبشفافية مطلقة تستدعي من بغداد أن تكون أكثر وعياً باتجاه تحقيق شراكة مع أربيل، وتقدير تضحيات الكورد التي كانوا ولا زالوا يقدمونها من أجل العراق والعراقيين لتحقيق السلام والازدهار، تحقيقاً شراكة فعلية بين الكورد والعرب ستقضي على الإرهاب والتطرف والجهل. ذات الأمر في سوريا، التي تشهد حرب وكالات بين العلويين والسنة المتشددين ومن خلفهم امبراطوريتان واهمتان في الخلافة، والوهم يدفعهما إلى لعمل ضد القومية الكوردية والعربية معاً.
إقرأ أيضاً: أربيل التي سبقت دبي
جذور العلاقات التاريخية وعراقتها وأصالتها ومتانتها بين الكورد والعرب وباقي الشعوب المنطقة، هي أساس التعايش السلمي نحو بناء مجتمعات متماسكة، مبنية على أساس العدل والمساواة واحترام وقبول الآخر، بهدف الوصول إلى تحقيق شراكة فعلية وفق الحقوق المشروعة للشعبين. القوميتان مستهدفتان، في أرضهما وتاريخهما وحاضرهما ومستقبلهما وكذلك جغرافيتهما، وبالتالي لن يكمن الحل إلا عبر نشر ثقافة الحوار والتصافح والمحبة، وتأسيس وترسيخ مفاهيم الديمقراطية وأسس السلام، واحترام قواعد النظام العالمي والمصالح المشتركة بين المجتمعات الحضارية.
التعليقات