بدأت تفشل سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان داخلياً وخارجياً، ففي الأولى أصبحت تتجلى في الاقتصاد، وسعر العملة، وصعود المعارضة، والعجز الفاضح في الميزانية، وخاصة بين الواردات والصادرات، والأهم هي الموجات الفكرية العصرية المناهضة له وللتوجه الديني بين الجيل الشاب الجديد، ونحن هنا لسنا بصدد التوسع في هذا المجال الآن، بل سنتحدث في البعد الخارجي، وتحديداً حول الضجة التي خلقها حول محاولة التطبيع مع نظام بشار الأسد، والتي بدأت تخمد، حتى ولو كانت لا تزال الجمرة مستعرة، ولأسباب سنأتي على ذكرها.
قد يحصل اللقاء، لكن النتائج لن تكون كما يطمح إليها أردوغان، فكلاهما على طرفي النقيض من حيث التضحية والهدف، وقد صرح بها بشار الأسد بوضوح، ولا نظن أن أردوغان سيرتهن لها في هذه المرحلة تحديداً، حتى ولو قلّص الأول مطلبه من خروج تركيا من الأراضي السورية إلى إعطاء ضمانة بذلك، لكن من هو الضامن؟ هل هو بوتين؟ وهل له القدرة على فرضها على تركيا مستقبلاً؟ وهل سيتمكن من قطع دابر حججها بعدما يتم التوقيع على الاتفاقية؟ وتركيا ورقته الأكثر استناداً عليها في مواجهة الناتو ومصالح أميركا في سوريا والمنطقة بشكل عام.
مع ذلك، ففي السياسة كل الاحتمالات متوقعة، فليس لها وجه ولا لون ولا رائحة، ومن يطبّقون هذا المسار بأدق تفاصيله هم الناجحون في الحياة، ويبلغون الغاية بتمامه، وجلّهم على قدرة عالية من التجرؤ بالتخلي عن القيم والأخلاق، وهو ما توقف عليه ميكيافيللي وتحدث عنهم وفيهم وفي أساليبهم. والأمثلة عديدة في التاريخ، جلّهم يُدرجون ويُوصفون كعظماء ليس فقط بين شعوبهم، بل ولدى العالم الخارجي، ويتم التناسي أو عدم التنويه إلى ما فعلوه من الجرائم والكذب والنفاق وخداع العشرات من الأصدقاء والتضحية بهم.
وأردوغان من الشخصيات السياسية الأكثر تطبيقاً في هذه المرحلة الزمنية للجدلية الميكيافيلية هذه. بمراجعة تاريخه السياسي سنجده حافلاً بمثل ما تم ذكره، خدع وضحّى بالعشرات من زملائه في الحزب والعقيدة، وأجرم بحق العديد من شخصيات حكوماته المتعددة، وانقلب عليهم وأزالهم من الساحة، ولم يقف عند هذا الحد، بل ضحّى بالشعوب التي لجأت إليه، كالشعب السوري، ليس فقط سخّرهم لسياسته، بل استخدمهم كمرتزقة في حروبه الخارجية، من دون أن ينهره ضميره أو يراجع إسلامه وقيمها وأخلاقياتها، وهو الذي غيّر مبادئه ومواقفه مع أعدائه، وأصبح يتقرب من المجرمين الذين دمّروا شعوبهم، ومحاولاته التطبيع مع بشار الأسد والاتجار بالمهاجرين السوريين خير مثال.
قبل عدة سنوات قال عن المجرم بشار الأسد: "أقول للأسد: لقد اقترب عدد الضحايا الذين قتلوا في سوريا من 100 ألف إنسان، قسماً بربي ستدفع الثمن غالياً"، وأضاف: "سيأتي اليوم الذي سأصلي فيه في الجامع الأموي بعد خلعك".
وقال وكرر ووعد المعارضة ودعم التكفيريين، وحصل من خلال تعويم مآسي المهاجرين السوريين على المليارات وفرض متطلباته على الدول الأوروبية، إلى أن وصل إلى اليوم ليخلع عن ذاته ثوب الخلافة السنية والنفاق، فبدأ ببيع المعارضة والمهاجرين من أجل مصالحه، ومصالحه تتطلب رضى مجرم سوريا الأقذر بشار الأسد، فكلف بوتين بالمهمة، وحرك إيران لإرضائه، وأصبح يستجدي بتصريحات متكررة.
ومن بين ما قاله: "إنه قد يدعو الرئيس السوري بشار الأسد لزيارة تركيا في أي وقت"، وأضاف: "وصلنا الآن إلى مرحلة بحيث إنه بمجرد اتخاذ بشار الأسد خطوة لتحسين العلاقات مع تركيا، سوف نبادر بالاستجابة بشكل مناسب".
أي بما معناه ينتظر رد بشار الأسد لقبول مسيرة التطبيع معه، وهو حاضر لكل التنازلات، وهو ما فرضه على أدواته من المعارضة السورية والحكومة المؤقتة للرضوخ.
وعلى الأرجح أن مسيرة التطبيع بدأت تنحرف نحو الفشل على:
1- خلفية الموقف الأميركي المعارض له، والتي تبيّنت من خلال التصريحات الأخيرة التي صدرت من وزارة الخارجية الأميركية والمسؤولين عن الملف السوري، والرافضين لأي تطبيع مع بشار الأسد، وبيّنوا دعمهم للإدارة الذاتية وللقوات الكوردية، حتى ولو أنها مرّت سابقاً بنوع من الصمت إزاء بعض التجاوزات التركية بحق أبناء المنطقة، لكن اليوم (نتحدث عن الإدارة الحالية، والقادمة ضبابية) ودعماً لتلك التصريحات قامت بإثارة قضية داعش ثانية، قائلة إنها بدأت تلملم شتاتها للقيام بعمليات إجرامية في المنطقة.
2- احتمالات رفض المنظمات السورية العسكرية، كهيئة تحرير الشام وغيرها، لمشروع التطبيع، بعكس ما تفعله الحكومة السورية المؤقتة وما تسمى بالجيش الوطني الحر، المحتل لمنطقتي عفرين وكري سبي وسري كانيه، والتي هي أدواته المستخدمة لإنتاج المرتزقة والتغطية على احتلال تركيا لتلك المناطق.
بالتالي، مخطط التطبيع مسار آخر يُضاف إلى مسارات أستانة الاثنتين والعشرين الفاشلة، والتي في معظمها كان الرد الأميركي بالصمت، أما اليوم فقد خرجت عن المألوف وكان الرفض.
أي أن أردوغان سيكون قد أنفق تقريباً كل أوراقه حول خطط القضاء على قوات قسد وإنهاء الإدارة الذاتية، ويتوقع أن يبحث عن بديل جديد، خاصة وقد بيّن المجرم بشار الأسد بشكل غير مباشر أنه لن يعرض ذاته للخطر في الواقع العملي، حتى ولو كانت تصريحاته تتجه نحو هذا المنحى، فيصبح أداته في مواجهة أميركا ومحاربة قوات قسد.
ولا نستبعد أن اليوم ذاته سيأتي ليرضخ لـ (نتنياهو) وحكومته ويطلب رضاه، مثلما يفعل اليوم مع بشار الأسد، وتكون عملية التراجع عن مهاجمة إسرائيل خطته القادمة لإقناع أميركا بالتخلي عن قوات قسد، في حال بلوغه مرحلة الفشل التام مع سوريا وعرّابتها روسيا في محاربة قسد.
كالعادة بدأ بالتصريحات النارية ضدها من خلال التهجم على رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، لكسب رضى الداخل التركي والعربي، فقال الكثير بحقها وهي دولة ذات سيادة وتاريخ عريق، لا يمكن التغاضي عنها، وأيّاً كانت الانتقادات، فلا يمكن إنكار أن لهذه الدولة عمقاً تاريخياً مسنوداً بنصوص الديانات السماوية الثلاث. ومع ذلك تناسى أردوغان هذه الحقيقة، وانحاز إلى الميكيافيلية فصرّح البارحة: "إنّ وقوع الدول التي تتشدق بالحرية وحقوق الإنسان والعدالة أسيرة لشخص مريض عقلياً مثل نتنياهو يعدّ أمراً خطيراً وبائساً".
وأضاف أيضاً: إن تركيا ستقف مع الشعب اللبناني، كما تقف اليوم مع الشعب الفلسطيني.
والمسألة هي: كم ستطول الفترة ليعود السيد أردوغان إلى مرحلة الاحتياج لإسرائيل وتقبيل أيادي الحاخامات اليهود، بل وربما يدي نتنياهو، فكما نعلم أن حجم التبادل التجاري بين الدولتين يتجاوز 12 مليار دولار، ودروناته (البيرقدار) التي يتبجح بها في العالم هي إسرائيلية الأصل، وهو ما لا يمكن التغاضي عنه، إلى جانب أن معظم الشركات الرأسمالية العالمية التي دعمته ليبلغ ما بلغه من النهوض الاقتصادي كانت شركات ذات أصول يهودية أو داعمة لإسرائيل، وهذا ما قد يحاول رضاها ثانية لفتح صفحة جديدة مع نتنياهو من أجل ما يطمح إليه.
الله يرحمك يا المعارضة السورية، وحكومتها المؤقتة. قلوبنا معكم يا المهاجرين السوريين.
لعنة الله على المنافقين، وعلى التاريخ الذي يدرج أمثال أردوغان في صفحاته كالعظماء.





















التعليقات