ما لا يند عن ذهن أو يلتوي على خاطر، أن الفساد الذي خلع على رواده حُللاً زاهية من البُلهْنية والرفاهية، يجب أن ننتحل له عذراً صادقاً، أو رخصة سائغة، تبرر شيوعه وانتشاره، فأكاذيبه البلقاء التي لا تجد من يسترها، تدفعنا دفعاً لأن نتعاطف مع شيعته التي بنت بجهدها المتصل صروح الدعة والغني، وشيدت لغيرها بروج الجدب والفاقة، تلك الطائفة التي لا يردعها تقى، أو يحجزها نهى، فازت بسهم رابح من الملق والنفاق، وأوتيت حظاً وافراً من المكر والدهاء، أهلّها لترسم في وجداننا الدامي لوحات الأسى والشجن، وتصبغ على واقعنا المرير عتمة اليأس والضياع، ولكن قبل أن أرخي ليدي عنان القلم، أود أن أتطرق للخصال التي حذرنا منها من أربى على الأكفاء، وتميز عن النظراء، نبينا الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الخصال التي جعلت الرذائل والشيم الفاسدة تحل محل القيم والأخلاق الفاضلة، يقول خير من وطئت أقدامه الثرى في الحديث الذي رواه البيهقي وابن ماجة: "يا معشر المهاجرين، خصال خمس إذا ابتليتم بهن ونزلت بكم وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة، وجور السلطان ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدواً من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم".

إقرأ أيضاً: سياسات اقتصادية عقيمة

إنَّ هيكل الفساد الذي رسخ في المهج المنحرفة، وقرّ في الضمائر المنجرفة عن جادة الصواب، اعتمد في تأثيل مجده على المادة التي توثق عُرى العز، وتبثت وطائد الرفعة، وتعمّر أفنية السعادة، هذه المادة التي أضحت لا تعوقها موانع الدين، ولا تعترضها نوائب القيم، ولا تحجزها صوارف الخشية من الله، جعلت هؤلاء وأولئك يضاعفون حظنا من المشقة والعناء، فهل السودان الآن إلا حرب تشب، وصلح يُعقد، وحدود تُغتصب، وفساد يستشري، أسوق ما طالعته أيها الأغر الأكرم لأعطيك صورة قاتمة ولكنها حقيقية بطبيعة الحال، عن كنه الداء العضال الذي تبغضه العاطفة الدينية، وتمجه النزعة الوطنية، وتنفر منه الطغمة السياسية، دنف يمنحنا طوائف من الحقوق لدى وزارة العدل التي وصل تكريمها إلي كل الآذان، نريد منها وهي المشبل العطوف التي يجتمع على سماطها كل يوم جمع غفير من الناس الجملة المتماسكة، والعبارة المصقولة، واللفظ السليم الذي يُزين جدران محاكمها "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" النساء: 58، العدل الذي يعد بمثابة وازع اطمئنان، ومبعث أمان، لكل من تلج أقدامه عتبة المحاكم، وردت ألفاظه ومشتقاتها ما يربو عن سبعين مرة في ذلك الكتاب المتراصف النظم، المتخير الألفاظ، المنتخل الأساليب، مما يدل على اهتمام الشارع الحكيم به، والحث على إقامته، نعم نريد من تلك الوزارة التي تسمو إليها الآمال، وتعلو إليها الأماني، أن تصدع بكلمة الحق غير آبهة بأحد، ولا مكترثة بمنصبه أو حصانته، فالجميع أمام الشرع سواء، وأن تحاسب أصحاب النِحل الخبيثة، والمطامع الخسيسة، الذين أضفت نوافلهم، وأندت أناملهم، بقاع السودان تردياً وهلكة، نريد منها ألا نستشعر اليأس من وجودها في القضايا التي تتعلق بانتهاك المال العام، وتعود بعد الذبول ناضرة، وبعد الخمول نابهة، لتضع الأصفاد في رسغ من أغتنى بفضل وظيفته وعصبته، بل نريد أن نرى من اتخذوا نضائد الديباج، وستور الحرير، قد غاصت بشاشتهم، وذهبت أناقتهم، لأن الشهوات قد طغت على طباعهم، والأثرة قد حفت على أذهانهم، والشرف قد مات في ضمائرهم، فلم يعد يجدون في دواخلهم مضاً ولا غضاضة في إتيان المخازي، ومقارفة الدنايا، وارتكاب العيوب، وذلك بجعل مناصبهم مطايا لتحقيق أهازيج جزلهم وحبورهم.

إقرأ أيضاً: أسئلة عصية على الإجابة

أما بعد، إن هذه الطائفة التي ينفتق ذهنها في كل لحظة عن صفقات مشبوهة تعقد، ومنافع يجري تبادلها، لم تترك لنا ثاغية أو راغية، ولا يكون من المغالاة أن نزعم أن الفساد الذي تزكم رائحته الأنوف هو الذي قادنا لهذا الفقر المدقع الذي نعيش تحت وطأته، وأخشى أن يكون هناك من يسعى أن يبيض صفحته الداكنة من كل ما علق بها من خطايا وذنوب، ومازال الأمل يحدونا في تلك الموسسة العريقة التي أتمنى أن يكتب الله لها نواحي الظفر، ويتوخى لها وجوه النجح، وأن يذلل لها العقاب، ويروض لها الصعاب، حتى تجتث شأفة الفساد، وتتطهر مرافق الدولة من أوضار الجرم والاعتساف.