أصبحت جدلية متداولة في أميركا أكثر مما هي في الخارج، أن من يجلس في البيت الأبيض يحكم العالم، وأميركا في الواقع الفعلي لا تزال في يد العرق الأبيض، حتى ولو أن الحديث في هذا المجال بشكل علني مرعب التطرق إليه، لكن الكل يعلم وهو صامت، ولا خلاف على أن (دونالد ترامب) ممثلهم، بل ممثل الشريحة الأكثر تطرفاً في الحزب، ولم يتمكن من التغطية على هذه الحقيقة بعد الطلقة التي كادت تؤدي بحياته. ففي نهاية مؤتمر الحزب وبعدما دفع به استراتيجيّوه على رفع شعار أنه يريد أن يكون ممثل الشعب الأميركي عامة وليس لطرف واحد، عاد ليكمل كلمته على سجيته الحقيقية بعد منتصفها، وبها وربما من دون تخطيط، جمع الطرفين في الحزب، الطامح إلى بلوغ البيت الأبيض مع المتكالب على الهيمنة العرقية.

في مؤتمر الحزب الجمهوري الذي استمر ثلاثة أيام وانتهى البارحة، تكررت مقولة رئيس العالم، وأميركا العظمى، وغيرها من مصطلحات التباهي التي عكست العنجهية المسنودة عليها دونالد ترامب أمام مؤيديه، وجلّهم ما يُعرفون بأبناء الريف الأميركي، وفي الواقع هم الشريحة البيضاء التي ترى ذاتها العرق الأفضل، حتى ولو أنهم لا يتجرؤون على قولها، لأن القانون الأميركي يحكم على الفرد سنوات ثلاث من السجن وأكثر عند إثبات أية صيغة أو موقف عنصري، والقانون في هذا الاتجاه صارم جداً. لكن هذا لم يمنع من أن تظهر الشريحة العنصرية بألبستها، وطباعها، ومطالبها، وراياتها، وهؤلاء هم من اقتحموا الكونغرس عام 2020 عندما خسر في الانتخابات، وهي الطاغية في الحزب، حتى ولو كانت هناك مجموعات من السود أو عرق أميركا اللاتينية في الحزب الجمهوري يعدّون أيضاً من أشد مؤيديه، لكن خلفيات التأييد مختلفة، الأولى عرقية، والثانية اقتصادية وسياسية.

دونالد ترامب في حربه ضد إدارة بايدن، يركز على نقاط مختلفة، تبدأ من التهكم بشخصيته، إلى اتهام إدارته بأنها دمرت الإمبراطورية الأميركية ذات القطب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ولم تعد تتحكم بالعالم من البعدين الاقتصادي والسياسي، وأن قوتها العسكرية المتواجدة في أكثر من 190 دولة من أصل 206 تخدم العالم قبل أن تخدم الشعب الأميركي. وبالمقابل يستند على تقليص الهوة بين أميركا والمنافسين لها كروسيا والصين، وحتى بعض الدول الصغرى، لكنه يدّعي بأنه يحافظ على مستويات الحد من استراتيجية الهيمنة لديها. ولا شك أننا لا نتطرق إلى القضايا الخلافية الأخرى بين الحزبين والتي تعكسها خطابات ممثليهما أثناء حملاتهما الانتخابية.

وبهذه التهم تمكن دونالد ترامب من تصعيد الصراع على البيت الأبيض إلى مستويات غير مسبوقة، وبأساليب لم يتم تداولها سابقاً، وبالرغم من الفرق الواسع بين لغتي الممثلين، تمكن ترامب من الريادة حتى الآن.

لكن هذا لا يعني أن الشعب الأميركي توقف هنا ولا يبحث عن معرفة من سيكون في البيت الأبيض في الانتخابات القادمة، فهناك شريحة واسعة من المحايدين ترفض انتخابهما، وحججهم مقنعة، وهي ما بين تأثير العمر الزمني لجو بايدن وقدراته الذهنية، والسمعة الملوثة لدونالد ترامب، حتى ولو تمّت تبرئته، لكن الشريحة المعنية لن تبرّئه، بعكس المؤيدة له التي لا تهمها حتى ولو دخل السجن، ففي نظرهم سيظل منقذ أميركا. ولذلك فما يجري حالياً سيكون له تبعات على قادم أميركا داخلياً وخارجياً على العديد من الأمم والشعوب، وعلى العلاقات الدولية، وعلى الاقتصاد العالمي بشكل عام.

لا شك بعد المناظرة التي تمّت قبل شهرين، إلى لحظة محاولة اغتيال دونالد ترامب، تزايدت شعبيته ليس لأنه يقدم الأفضل، بل لتراجع شعبية بايدن على خلفية الأخطاء المتكررة، وهيئته عند الظهور أمام جماهيره.

إلى جانب ما نوهنا إليه هناك (المناظرة الفاشلة لجو بايدن، العمر، القدرة الذهنية)، هناك عوامل أخرى ركز عليها استراتيجيّو الحزب الجمهوري في مؤتمرهم، وبها تمكنوا من رفع مستوى احتمالات النجاح وتفوّق مرشحهم، ومنها:

1. تحريك إشكالية الرهائن اليهود الأميركيين الذين هم بيد حماس، والتي لم تتمكن إدارة بايدن حتى الآن من إطلاق سراحهم، وهي حالة مشابهة لما تم في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1979 في طهران أثناء ثورة الخميني، واحتجازهم لموظفي السفارة الأميركية وعدم قدرة إدارة (جيمي كارتر) على إنقاذهم، حينها استند ممثل الجمهوريين (رونالد ريغن) في حملته الانتخابية عليها، وأصبحت من أهم عوامل نجاحه.

2. محاولة اغتياله، فكما يقال الطلقة التي لا تقتلك تقويك، وبالحادثة تمّ في المؤتمر وخارجه التلاعب بمشاعر شريحة واسعة من الشعب الأميركي.

3. تبيان ترامب الجدّ والأب الفاضل، من خلال ظهور أبنائه وأحفاده على منصة المؤتمر، وهم يتحدثون عنه كشخص ورب عائلة مثالي، وليس كسياسي، أو كما عُرف على أنه مدان بقضايا أخلاقية واقتصادية وقانونية.

4. على أنه لا يحتاج إلى الشهرة فهو يملكها، بل يحارب لإنقاذ أميركا من الانهيار.

هذه وغيرها من الطروحات بدأت تعوم احتمالية نجاح دونالد ترامب، خاصة وأن الديمقراطيين أصبحوا مشتتين ما بين دعم ممثلهم والطلب منه بالتنازل، الإشكالية التي أرى بأنها لن تخرج الحزب الديمقراطي من المأزق، لعدم وجود الممثل المناسب لمنافسة دونالد ترامب، فنائبة الرئيس (كاملا هاريس) شعبيتها ضعيفة بين الشرائح المحايدة، والإتيان بممثل آخر ربما لا يملك الفترة الزمنية الكافية من: أولاً، جمع الأموال اللازمة للحملة، وثانياً، الدعاية وتعريف الشعب الأميركي على ذاته.

مع ذلك لا يزال للحزب الديمقراطي حظ من النجاح على خلفية التطرف الذي برز على أسسه اسم دونالد ترامب، بل وأصبح يُعرف بأنه يمثل الوجه العنصري، وعلى أثرها تجمع حوله الشريحة المتطرفة، والتي تقابلها شريحة متطرفة في البعد الديمقراطي، وهي لا تقل عن الأولى قوة ونسبة. إلى جانب أن سمعة ترامب في الحضيض لدى نسبة غير قليلة من الشعب الأميركي، حتى ولو تمّت تبرئته.

وبالتالي فالحزبان لهما إشكاليات، حتى ولو كانت على أوجه مختلفة، والتنافس لن يكون على جماهير الحزبين، لأن أعضاءهما أصبحوا كمريدي الأديان يتوارثون التبعية جيلاً بعد جيل، لن يغيروا من مواقفهم أيّاً كان ممثلهم، لذلك سيستمرون بالاعتماد على الولايات المحايدة، ومن بينها ولاية أوهايو، وهو ما أدى بالجمهوريين إلى تعيين السناتور الجمهوري (د ج فانس) ابن الـ39 عاماً والمتزوج من محامية والديها من مهاجري الهند، في منصب نائب الرئيس، وبه كسبوا عدة أوجه: إشكالية العمر، وجمهوره من الولاية المحايدة، وربما الجالية الهندية التي ليست بقليلة، لولا أنها تنحاز إلى جانب (كاملا هاريس) وأمها هندية أيضاً.

فيمكن القول، بالرغم من ما يتبجح به الحزب الجمهوري وتصاعد مكانة دونالد ترامب، والمتوقع أن يكون الرئيس الأميركي القادم وللمرة الثانية، والتي ليس لها سابقة مماثلة في التاريخ الأميركي، لا تزال احتمالات النجاح والخسارة متأرجحة، قد تتغير المعادلة قبل أو أثناء مؤتمر الديمقراطيين في 19 آب (أغسطس) القادم، وعادة يخلق المؤتمر ضجة إعلامية صارخة، وكثيراً ما تغيرت المعادلات بعد مؤتمراتهم.