في ظل ظروف سياسية صعبة وأحداث متشابكة بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كانت تحكمها عوامل مختلفة خارجة عن إرادة الكثيرين، تأسس الحزب الديمقراطي الكوردستاني (البارتي) على يد الخالد مصطفى البارزاني، وانتمت إليه الصفوة والنخب السياسية والثقافية، والتفت حوله الجماهير الكوردستانية.

تأسيسه (في 16 آب - أغسطس 1946) لفت الأنظار، وعكس الإرادة القوية لتحقيق التطلعات القومية والوطنية، وخطابه الرصين أرسل رسائل واضحة مفادها أن هناك حراكًا سياسيًا سيواجه التحديات مهما كانت كبيرة. واعتبره المراقبون، فيما بعد، بسبب قدراته التنظيمية والسياسية ورؤيته ومواقفه وثوابته وأولوياته، حدثًا نقيًا من بين أحداث ما بعد الحرب.

ما يُحسب للبارتي وليس عليه هو أنه مرّ بتحولات سياسية ومحطات كثيرة، بعضها كانت حادة ومؤلمة، تجاوزها بالنضال وبتقديم التضحيات، وخرج منها أكثر قوة وشعورًا بالمسؤولية تجاه شعب كوردستان وما يتعرض له من تهديدات، وأكثر إصرارًا على أن تظل علاقاته مع الجميع طبيعية، ولم تتغير في جوهرها المبني على الاحترام المتبادل.

في قراءة سفر التاريخ النضالي للبارتي، الذي تعرض أكثر من غيره للمؤامرات والخيانات المحلية والإقليمية والدولية، نتعرف على الكثير من المواقف والمفارقات والملاحم التي يمكن أن تُكتب عنها روايات طويلة ومجلدات ضخمة، ونتوصل فيها إلى دلائل دامغة على استحالة إزاحته من الوجود. ولأن المجال في مقال صحفي لا يسمح بسرد الوثائق والمستندات وما في الذاكرة، فإننا نكتفي بعرض بعض المفارقات البارتية التي جاءت ردًا على التحديات والمؤامرات والخيانات التي تعرض لها، والمعبرة عن مواقفه الإنسانية المستمدة من فكر ونهج وعقيدة البارزاني الخالد:

المفارقة الأولى: بعد انطلاق ثورة أيلول (سبتمبر) المجيدة، تعرض البارتي في سنة 1964 لخيانة وانشقاق عدد من أعضاء مكتبه السياسي وكوادره المتقدمة. هؤلاء ألحقوا الضرر بصفوف البيشمركه وممتلكات وأسلحة وإذاعة وسمعة الثورة والحركة التحررية الكوردستانية، وتمت مؤازرتهم من قبل شاه إيران واستقبالهم في مدينة همدان الإيرانية. وبعد أشهر معدودات، أصدر البارزاني الخالد العفو عنهم وعادوا إلى المناطق المحررة من كوردستان دون أيّ معاقبة أو محاسبة.

المفارقة الثانية: ذات الذين انشقوا وذهبوا إلى همدان، توجهوا نحو بغداد، وحملوا السلاح ضد البيشمركه والبارتي وثورته المسلحة، وشوهدوا في بعض المعارك وهم يتقدمون قوات الجيش لاحتلال أراضي كوردستان. ولكن بعد إرغام النظام البعثي على التوقيع على اتفاقية آذار (مارس) 1970، وعندما كان البعض يتوقع الانتقام من هؤلاء ومن الجحوش والمرتزقة الآخرين، أصدر البارزاني الخالد قرارًا بالعفو العام عنهم، وعاد البعض منهم مرة أخرى، بعد أن عبروا عن الندم واعترفوا بالخطأ، إلى صفوف البارتي.

المفارقة الثالثة: بعد تعرض الكورد لمؤامرة الجزائر السيئة الصيت الدولية، وخلال ثورة كولان التي حملت دلالات متعددة على المستويات السياسية والرمزية والإعلامية، والتي كانت تحديًا كبيرًا للنظام القمعي البعثي في إظهار قوة البارتي وجذره العميق والأصيل وحسن تنظيمه وقدرته على حشد الدعم الجماهيري. جند البعث وسلَّح الكثير من الخونة (الكورد) في صفوف أفواج شبه عسكرية ومفارز خاصة تابعة لأمنه واستخباراته ليستخدمهم كبيادق الشطرنج ضد الثورة الكوردستانية. هؤلاء، وبالأخص الخونة منهم، ارتكبوا جرائم مشينة بحق الكورد والكوردستانيين. ولكن بعد انتصار انتفاضة آذار (مارس) 1991، أصدر الرئيس مسعود بارزاني (حينها كان رئيسًا للجبهة الكوردستانية التي قادت الانتفاضة)، قرارًا بالعفو العام عن الجميع، تم بموجبه تعزيز قيم التسامح والتعايش في الإقليم الذي كان بحاجة إلى الوئام والاستقرار، وتبين لاحقًا أن قرار العفو كان صائبًا وحكيمًا.

أما المفارقات الملفتة للنظر في مرحلة ما بعد 2003، فهي بالعشرات وربما بالمئات، وجميعها تدل على إيثار وتضحيات وثبات البارتيين الذين دأبوا على التسامح والتعايش والتعامل مع الاستحقاقات بروح إنسانية دون استحضار الصفحات المؤلمة من الماضي، أي منع إيقاع الحاضر تحت تأثير الماضي، والتعبير بسياساتهم عن القدرة على منح الكوردستانيين والعراقيين راحة نفسية وسياسية وأمنية كانوا وما زالوا بحاجة لها من جهة، ومواصلة المسيرة بدافع الولاء الإنساني والوطني والقومي وتجديد العهد بالنضال حتى تحقيق كامل حقوق شعب كوردستان من جهة أخرى.