تعودت السياسة الكوردية في إقليم كوردستان العراق، على نمط تعدد الوجوه والازدواجية في التعامل والتهجم على الإقليم مع كل خطوة دستورية يقدم عليها، من قبل أشخاص وشخصيات سياسية أو عسكرية، لتبرر بعد أن تثبت حقيقة وجهة النظر الدستورية للإقليم، بأنها كانت إما من أجل الحيادية والتوازن في الخطاب السياسي، أو أن وجودهم في بغداد يفرض عليهم هذا الخطاب حماية لحياتهم ومصالحهم السياسية، أو أنهم ينظرون إلى الموضوع بمنظار وطني لا يفرق بين سياستي بغداد وإقليم كوردستان، ليتغير الخطاب تماماً مع أول دعوة تأتيهم من الإقليم، أو بعد نفاد صلاحيتهم السياسية في بغداد وإحساسهم بأن بقاءهم فيها بشكل خطير على حياتهم وحياة ذويهم.
هذا النمط من الخطاب عايشه الإقليم في الفترة ما بين 2014 و2017، أي ما بعد احتلال تنظيم داعش الإرهابي لثلث العراق، وصولاً لإجراء استفتاء استقلال الإقليم في الخامس والعشرين من أيلول (سبتمبر) 2017، حيث التضامن في البداية مع كل ما كان يقوله الإقليم ويقرره ويصرح به سياسيوه، لحين الوصول لترتيب الأمور مع المنفذين في العملية السياسية العراقية والجهات الخارجية التي تدعمهم وتحاول إطالة بقائهم في السلطة، لتبدأ بعد ذلك مرحلة التهجم على الإقليم بعد التأكد من (صكوك الغفران) التي تحصلوا عليها من قبل الجارة الشرقية، والتي تتولى رسمياً وبهيمنتها، تسيير كل صغيرة وكبيرة لهم ولكل من يريد أن ينال حصته من كعكة السياسة العراقية.
وبحلول عام 2018، حاولت هذه الشخصيات، وبكل أحزابها ومسمياتها، تغيير خطابها وسياساتها تجاه الإقليم وقيادته السياسية والسير على ما سُمي في حينها بـ(الخطاب الوطني المعتدل)، لبدء صفحة جديدة من العلاقات، وخصوصاً بعد زيارة الرئيس مسعود بارزاني إلى بغداد وتوقيع أكثر من تفاهم واتفاق بين حكومتي بغداد وأربيل في زمن عادل عبد المهدي لحل المشاكل المالية، إلا أنها ذهبت أيضاً أدراج الرياح، وخصوصاً بعد أزمة مظاهرات تشرين واستقالة الحكومة والدخول في أكثر من أزمة سياسية، ليبدأ التهجم من جديد على الإقليم وبطريقة أكثر شراسة لإلهاء الشارع العراقي عما كان يحصل ضد متظاهري تشرين ولصرف نظر الرأي العام الداخلي والعالمي عن الجرائم التي ارتُكبت ضد المتظاهرين.
ومع تنفيذ الولايات المتحدة الأميركية عملية اغتيال قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس، وانتشار جائحة كورونا، والأزمات المالية العالمية، تحول المسار إلى تنفيذ هجمات صاروخية واعتداءات من قبل المليشيات غير القانونية، وأحياناً من قبل الجيش الإيراني ضد أهداف مدنية، بادعاء أنها تأوي عناصر منتمين للموساد الإسرائيلي، وبنشر صور ملفقة وأسماء لا توجد حتى في أقسى قواميس اللغة العبرية، بقديمها وحديثها. وباستمرار الأزمات التي اجتاحت العراق بعد انتخابات 2021، والفراغ السياسي الذي استمر لأكثر من عام، والذي انتهى بعد المواجهات الشيعية – الشيعية، بين أتباع التيار الصدري ومن يخالفهم من الطرف الشيعي الآخر، بالاتفاق على شخص رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وتحديداً في أربيل وفي (مقر البارزاني)، وهنا يحين الوقت لتوضيح ما تعنيه جملة (فزعة أبو مسرور).
الفزعة، باللهجة العراقية، تعني العون، أو تقديم المساعدة، أو المبادرة لمساعدة شخص أو طرف لحل مشكلة، أو لعقد اتفاق حيث يكون الطرف (الفازع - المنقذ)، دوماً، شخصاً ذا حكمة أو يتمتع بقوة بدنية، أو بكاريزما تسهل إقناع الطرف الآخر على حل المشكلة والوصول إلى مرحلة العقد والربط، وأبو مسرور هو الرئيس مسعود بارزاني، أما الجملة، فقد سمعتها في اجتماع مع رئيس المشروع العربي، ورئيس تحالف السيادة الشيخ خميس الخنجر، بحديثه عن بعض الأطراف السنية التي تهاجم إقليم كوردستان، طمعاً بمنصب أو امتياز أو على الأقل لإبعاد الخطر عنهم، حيث قالها نصاً بأن هذه الأطراف والشخصيات (والتي لا أريد أن أذكر اسمها)، ستحتاج يوماً إلى (فزعة أبو مسرور).
وفي آخر المستجدات السياسية والاقتصادية، وتزامناً مع النجاحات الكبيرة التي حققها رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب خلال زيارته لدول الخليج العربي، وفي خطوة مهمة تُحسب إيجابياً لإقليم كوردستان، شهدت واشنطن توقيع اتفاقيتين في قطاع الخاص، من أجل توليد الطاقة الكهربائية في الإقليم، لتبدأ الماكينة الإعلامية بتوجيه سهامها مرة أخرى صوب الإقليم، وعودة مصطلحات التخوين والاتهامات الباطلة التي باتت معروفة حتى قبل أن تُنطق من أفواه الشلة التي تعودت وعودتنا على هذه التصرفات، لكن الإدارة الأميركية كان لها رأي آخر، شكل صدمة للحكومة العراقية، ولكل من أيد بيان وزارة النفط الاتحادية والتي رفضت الموضوع شكلاً وتفصيلاً، حتى دون أن تعلم حيثياته وتفاصيله.
إنَّ الجولة الأخيرة لرئيس حكومة إقليم كوردستان مسرور بارزاني، إلى الولايات المتحدة الأميركية، بينت مدى اهتمام واشنطن بالموقع السياسي والاقتصادي للإقليم، ومدى تعمق هذه الإدارة بمسؤوليها ومستشاريها، في القراءة الصحيحة للدستور العراقي والتي تعطيه الحق في إدارة ملف الثروات الطبيعية (بما فيها النفط والغاز)، والاعتراف الصريح من قبل وزير الخارجية بدعم حكومته لإقليم كوردستان وحكومته ولقراراته، فإن كانت تشعر واشنطن بأن هذه العقود باطلة أو غير قانونية، لم تكن لتوافق على توقيعها، أو على الأقل كانت ستتجاهل الموضوع ولم تكن لتولي هذا الاهتمام الكبير، بعقد حلقة نقاشية يشارك فيها رئيس حكومة إقليم كوردستان ووزير الطاقة الأميركي لشرح الأهمية الإدارية لهذه العقود والتي تعود بالفائدة على الإقليم والعراق، ولتوضيح الصورة الحقيقية لما فعلته أربيل.
وهنا لا بد من التذكير، بأن المادة 112، من الدستور العراقي تعطي الحق الكامل للإقليم، في التصرف بموضوع إدارة الملف النفطي في إطار الدستور، وفي ظل وجود فراغ تشريعي للإدارة المشتركة لهذا الملف، تكون الغلبة لقوانين وإجراءات الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، وقد تجسد هذا الموضوع أيضاً خلال اتفاق سياسي في عام 2007، حيث لم تتوصل الأطراف والأحزاب السياسية العراقية إلى اتفاق يفضي إلى تشريع هذا القانون، واتفقت على أن للإقليم الحق في خطواته لإدارة هذا الملف، وهذا ما فعله الإقليم حقاً، بتشريع قانون النفط والغاز في عام 2007، وليبدأ بتطوير بنيته التحتية عن طريق هذا القطاع.
لقد تعودت الحكومات العراقية دوماً، ومنذ تأسيس هذه الدولة، على الاتفاقيات المنقوصة، إن كانت على المستوى الداخلي، الإقليمي، أو حتى الدولي، حيث بادرت إلى اتفاقية الجزائر في عام 1975 لتتنصل عنها بعد أربعة أعوام، وبادرت إلى الوحدة مع سوريا، وانسحبت منها بعد أشهر قليلة، ناهيكم عن العشرات من الاتفاقيات مع القيادة السياسية الكوردية، وكان أشهرها في القرن المنصرم، اتفاق الحادي عشر من آذار، والتي تنصلت عنها بعد أربعة أعوام.
ومع أنَّ البيانات المستمرة من قبل الإدارة الأميركية، متمثلة بوزارة الخارجية والجهات المسؤولة عن ملف الطاقة والثروات الطبيعية، أدت إلى التخفيف قليلاً، من اللهجة التهجمية لبغداد ضد الإقليم، إلا أنها ما زالت مستمرة وعن طريق شخصيات تمثل أحزاباً متنفذة داخل الحكومة (وتعتبر نفسها أطول يداً من الحكومة)، بالتحشيد الإعلامي لتشويه وتسويف الحقائق المتعلقة بهذا الموضوع، بذات الازدواجية وتعدد الأوجه.
لكنَّ المعطيات التي نراها اليوم تختلف عما سبق، حيث بدأت الهيمنة الإقليمية على العراق تتراجع شيئاً فشيئاً وإن كانت بخطوات بطيئة، ولم تعد صكوك الغفران تشفع لكل من ينقلب على الإقليم لإعادة استغلاله سياسياً فيما يرضي الطرف المسيطر على الوضع السياسي في العراق، بل إن الطرف المهيمن بدأ في تصفير مشاكله مع الإقليم، بعد زيارة الرئيس الإيراني إلى أربيل، وبعد الاستقبال الذي حظي به رئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني في طهران، وعشرات من الاتفاقيات التي وقّعت بين الإقليم وإيران على مستوى محافظات الإقليم، في إطار التعاون العلمي والاقتصادي والتكنولوجي.
لذلك من المهم جداً، أن تنضم هذه الأطراف لـ(فزعة أبو مسرور)، وإلا، وبكل صراحة وحيادية، لا يمكن للمجتمع الدولي، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية، أن تقبل دولة عراقية منقوصة لأحد ركائزها، أي لا يمكن القبول بدولة دون الكورد، أو السنة، وإن استمرت هذه الأطراف بالتعنت، فلن يتسع لها الوقت حتى لتلوم نفسها، على فرصة ذهبية أضاعتها لبناء دولة موحدة قوية ومستقرة، ولن تنفعهم أية صكوك من أي طرف كان للاستمرار الهش الذي تعودت عليه.
التعليقات