في الوقت الذي تركز فيه الدول الأوروبية على تداعيات النزاع الحالي مع روسيا في أوكرانيا، فإنَّ التغيرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط تحدث بطرق تدعو للقلق. لم تعد هذه المنطقة مجرد مشهد ثانوي في خطط القوى العالمية، بل أصبحت محوراً للتنافس على النفوذ والمصالح. في القمة الأوروبية لعام 2024، ظهرت تحولات ملحوظة، حيث بدا أن قادة الاتحاد الأوروبي يميلون نحو تخفيف التوترات بين إيران وإسرائيل بدلاً من تقديم الدعم المباشر لأوكرانيا. بينما تسعى روسيا لتعزيز قوتها قرب حدودها، تستفيد القوات الإقليمية في الشرق الأوسط من هذه الظروف، بدعم من عوامل متعددة تشمل الموارد الطبيعية، والاستثمارات الواسعة، والتحالفات الأمنية، إلى جانب تاريخ طويل من النزاعات.
إلى جانب ذلك، تتواصل العمليات العسكرية ضد الجماعات المسلحة. في العراق وسوريا، يستمر التحالف الدولي، بالتعاون مع القوات المحلية، في مواجهة بقايا تنظيم "الدولة الإسلامية"، كما حدث في أيلول (سبتمبر) 2024 عندما قامت القوات الأميركية، بدعم من "قوات سوريا الديمقراطية"، بمهمة ضد قادة التنظيم. من جهة أخرى، تحقق تطور بارز في تركيا في أيار (مايو) 2025 عندما أعلن حزب العمال الكردستاني انتهاء وجوده العسكري بعد أكثر من أربعين عاماً من النزاع. اعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذا القرار خطوة ضرورية في جهود "إزالة الإرهاب من البلاد".
في مصر، حقق الجيش بالتعاون مع القبائل في سيناء إنجازات مهمة في تقويض "ولاية سيناء" المرتبطة بتنظيم داعش. أظهرت التقارير الأمنية أن هذا التعاون ساعد في تفكيك خلايا التنظيم المسلحة وزيادة ضعف قدراتهم، خاصة بعد استسلام قائد بارز في التنظيم في نهاية 2021. في الوقت نفسه، بدأت أخبار بالظهور في بعض الأوساط الإقليمية والدولية حول مشروع يعرف باسم "ممر داوود"، والذي يُزعم أنه يمتد من مرتفعات الجولان إلى نقطة التنف على الحدود السورية العراقية الأردنية، مروراً بمحافظة السويداء. بعض المحللين يرون أن هذا المشروع قد يكون جزءاً من محاولة غير رسمية من إسرائيل لإنشاء ممر يربط أراضيها بالمناطق الكردية في شمال سوريا والعراق، مما قد يقلل من نفوذ إيران وتركيا في المنطقة.
ومع ذلك، هذه الفكرة محاطة بجدل كبير، حيث أشار كتاب ومحللون إسرائيليون إلى أن تصور "ممر داوود" قد يكون أكثر من مجرد بيانات إعلامية، واعتبروه تحذيراً من الطموحات الإسرائيلية لإعادة رسم الحدود. ذكرت الصحف الإسرائيلية أن هذه الرواية ترتبط بفكرة "إسرائيل الكبرى" بدلاً من كونها خطة قابلة للتنفيذ، مما يجعل المشروع يبدو ضمن نطاق التكهنات، أو على الأقل في مكان بين الممكن والمبالغ فيه.
بالمقابل، تظهر في المنطقة منافسة قوية في مجال البنية التحتية والممرات الاقتصادية، حيث طرحت الصين "مبادرة الحزام والطريق" منذ عدة سنوات، حيث استثمرت مليارات الدولارات في مشاريع تشمل الموانئ والطرق والسكك الحديدية، مع التركيز على دول مثل مصر وإيران وإسرائيل وعمان والسعودية والإمارات. بحلول نهاية 2023، انضمت أكثر من 155 دولة إلى هذا المشروع، مما زاد من وجود بكين في قلب العالم العربي. من الناحية الأخرى، قدم تحالف غربي - هندي مشروع IMEC خلال قمة نيودلهي في أيلول (سبتمبر) 2023، وهو ممر اقتصادي يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا عبر شبكة مترابطة من الموانئ والسكك الحديدية. اعتُبرت هذه المبادرة خطوة استراتيجية لمواجهة نفوذ الصين المتزايد، خاصة في منطقة الخليج الغنية بالمصادر.
في الجانب السياسي - المذهبي، يتجدد مرة أخرى مصطلح "الهلال الشيعي"، الذي يصف شبكة النفوذ الإيراني التي تمتد من طهران إلى بغداد ودمشق وبيروت، مع الحث على الحوثيين في اليمن وحماس في غزة. لكن الأبحاث تشير إلى أن فاعلية هذا الهلال تتضاءل، وتصنف المشروع الإيراني بأنه "هش" نتيجة للتحديات السياسية والشعبية المتزايدة في العديد من الدول. على سبيل المثال، في لبنان، أعلن الرئيس جوزيف عون اعتزام الحكومة ضبط السلاح بيد الدولة، مما يُعتبر إشارة واضحة نحو نزع سلاح حزب الله، في محاولة لتقليص النفوذ الإيراني. أيضاً، بعض الدول العربية التي عادت إلى تطبيع علاقاتها مع دمشق، لم تكن تهدف لتعزيز التحالف مع إيران، بل غالباً ما كانت تبحث عن تقليل تأثيرها في الساحة السورية.
تحدث جميع هذه التطورات في إطار دولي مضطرب. لقد أدت حرب أوكرانيا إلى استنزاف أوروبا وركزت انتباهها على جبهتها الشرقية، مما أثر على مناطق أخرى بما في ذلك الشرق الأوسط. حتى روسيا، التي حاولت الاستفادة من النزاع الأوكراني للضغط على أوروبا، أصبحت مشغولة بتبعات الحرب وتعزيز جبهتها الداخلية. في ظل هذه الانشغالات، يبدو أن المنطقة تُشبه ساحة شطرنج معقدة حيث يتحرك اللاعبون بثقة ولكن بحذر، مع تداخل مشاريع الأمن والمصالح الاقتصادية، وتفاعل التحالفات بشكل معقد، مع خشية دائمة من أن ينجم عن أي شرارة صراع كبير.
في هذا السياق، يبقى الشرق الأوسط، بالرغم من فترات الهدوء النسبي، مليئاً بكل ما قد يؤدي للاشتباك. المنطقة أشبه بلوحة فسيفساء معقدة مرتبة بعناية، لكن أي حركة قد تؤدي إلى انهيار هذا التوازن. عندما يقول بعض الباحثين إن مبادرة "الحزام والطريق" والمشروع الاقتصادي الهندي - الأوروبي يمثلان رؤيتين مختلفتين للتنمية العالمية، فإنهم يكشفون عن العمق السياسي المخفي وراء القشرة الاقتصادية. في عالم تتداخل فيه التجارة مع الجغرافيا، والسياسة مع الأمن، لا يمكن اعتبار أي مشروع تنموي بريئاً من حسابات النفوذ. كل خطوة تخضع للمراقبة وكأن الجميع مشغولون بلعبة شطرنج رئيسية في أخطر منطقة بالعالم، حيث لا يرغب أحد في الخسارة، وكل طرف ينتظر تحريك القطعة الأقوى لتحديد مصيره.
التعليقات