اهتمام دولي غير مسبوق باتفاق السلام في غزة، وربما فاق هذا الاهتمام جميع الأحداث التي وقعت بعد الحرب العالمية الثانية وحتى على مخرجات الحرب العالمية الثانية ذاتها. وهذا الشيء مثير للانتباه، إذ لم يسبق للعالم أن عاش هكذا حدث غطى على جميع الأحداث العالمية من قبل، فهل فعلًا يستحق اتفاق إنهاء الصراع بين حماس وإسرائيل هذا الاهتمام الكبير الواسع، أم أن القضية لها أبعاد أخرى؟
من الواضح أن دول العالم الغربي تعرف كيف تتفنن في اصطياد الفرص لتوجيه ضرباتها لأعدائها، فالاتفاق في غزة هو ضربة ثلاثية الأبعاد لروسيا والصين وإيران. إن استقطاب غالبية الدول العربية والإسلامية في مشروع السلام الذي طرحه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي جاء في ظرف حرج كانت المنطقة فيه متعطشة إلى السلام بعد الفواجع التي حلت بالشعب الفلسطيني والتي أدمت قلوب الملايين، جعل دول العالم الغربي ودول العالم الإسلامي تتوحد من أجل إنجاح هذه المبادرة وانتشال الشعب الفلسطيني من مصير الإبادة الجماعية.
تحولت المبادرة إلى محفل لإعادة جسور التواصل بين دول العالم الإسلامي، وخاصة العربية منها، مع العالم الغربي. هذه الجسور التي تصدعت كثيرًا بسبب الميول الغربية الزائدة لصالح إسرائيل، مما أدى إلى إعادة الحياة للترابط والتحالف بين هاتين المجموعتين الدوليتين، وبالوقت نفسه عزل روسيا والصين وإيران عن هذا المحفل العالمي.
نحن نعلم أنَّ أميركا وأوروبا، وتحديدًا دول الترويكا الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا)، هي محور الحركة للحياة على كوكب الأرض. فهذه الدول تمثل قلب التكنولوجيا والصناعة والقوة العسكرية والإعلامية والفنية والرياضية في العالم، فإذا تحركت هذه الدول بقوة فكل شيء في العالم يتحرك بقوة — وأقصد هنا عسكريًا واقتصاديًا وإعلاميًا وسياسيًا ورياضيًا وكذلك في الجوانب الأخرى.
فهذه الدول، ولأول مرة في التاريخ بعد الحرب العالمية الثانية تحديدًا، أصبحت كتلة واحدة متحالفة تعمل لهدف واحد، ولأول مرة تستطيع أن تنشئ شبه تحالف استراتيجي مع الدول العربية والإسلامية لحل مشكلة غزة والمشكلة الفلسطينية عمومًا. فأصبح الشرق الأوسط برمته تقريبًا جبهة واحدة مع أميركا وأوروبا لحل هذه المشكلة، وكأن الحرب العالمية الثالثة ضد الصين وروسيا قد انتهت قبل أن تبدأ.
لأننا نعلم أن الدول العربية والإسلامية بعددها ونفوسها واقتصادياتها ومواقعها الجغرافية وثرواتها تمثل مركز الثقل الحيوي للعالم، فعندما تلتقي مصالح هذه الأطراف ستفجر ينبوعًا من المكاسب. وهذا يفسر لنا لماذا لم تحسم إسرائيل الحرب في غزة ضد حركة حماس عسكريًا رغم قدرتها على حسم الأمر منذ الأسبوع الأول، لأن الأمر كما يبدو لم يكن صراعًا عسكريًا ولا أيديولوجيًا، بل صراع من نوع آخر يدار بحرفية.
ففلسطين هي القضية الأولى للعرب والمسلمين، وروسيا منذ الاتحاد السوفياتي السابق والصين ودول عديدة متحالفة معهما كانت طوال تلك السنين تستغل هذه الفجوة بين العالم الغربي والعالم الإسلامي، ومن خلالها تصل إلى العالم الإسلامي وكانت تحقق نجاحات من خلالها. لذلك فإن النزاعات العسكرية في المنطقة سابقًا كانت تصب لمصلحة الدول المعادية لأميركا وأوروبا.
لكن أخيرًا وعت دول المعسكر الغربي أن هناك كنزًا سياسيًا رهيبًا في القضية الفلسطينية يجب استغلاله، فكانت على موعد لتصحيح المسار السياسي وإعادة البوصلة والمصالحة مع العرب والمسلمين من خلال أحداث غزة. فعملت بتخطيط سياسي دقيق مبرمج على حل هذه المعضلة، وهذا ما حصل فعلًا عندما أصبحت القضية الفلسطينية بوابة النصر الغربي ضد محور الشر كما يسمونه إعلاميًا من خلال اتفاق غزة.
من نتائج اتفاق السلام في غزة التي سيترقبها العالم بكل شغف، تأسيس الدولة الفلسطينية على أساس مقترح حل الدولتين، لكن النتيجة الكبرى المتوقعة بعد اتفاق غزة، والتي لم ينتبه إليها أحد، هي احتمالية الانسحاب الإيراني من المحور الصيني الروسي والاندماج بالمحور العربي الغربي، والدخول في مفاوضات جادة مع الغرب والقبول بجميع شروط المجتمع الدولي.
ذلك مما يفضي إلى انقلاب تدريجي سلمي هادئ في مبادئ الثورة الإسلامية من داخل إيران، لأن أكبر أهداف الثورة الإسلامية الإيرانية المعلنة والمتعلقة بالقضية الفلسطينية تكون قد انتهت على الطريقة العربية والغربية وليس على الطريقة الإيرانية، فتعود إيران كما كانت ضمن حدودها لكن صديقة للغرب.
ما حدث في المنطقة وما سيحدث في المستقبل القريب لم يكن صدفة، فهناك تخطيط عال المستوى، ربما يكون للذكاء الاصطناعي يد فيه، لأنه تخطيط يفوق عقل البشر، وأن درامية رسم الخطوات قد حيكت لسنين طويلة.
هنا نستطيع القول إن اتفاق السلام في غزة ليس فيه خاسر، فالكل رابح بالنسبة إلى الأطراف المتصارعة، فثمرة هذا الاتفاق سيعم خيرها وفائدتها على الجميع، والكل متلهف لرؤية الاتفاق حيّز التنفيذ.
وأخيرًا يمكن القول إن سلوك طريق السلام يحتاج إلى إرادة استثنائية وفكر متفتح لكي يتحقق النجاح.






















التعليقات