هناك ظاهرة التطور السياسي المذهل والتطور الاقتصادي المميز والتنافس مع المجتمع الدولي في المجال التكنولوجي والتجاري والزراعي والرياضي وحتى الفني عند دول الخليج خلال السنين الأخيرة جعلتني أتوقف قليلاً وأتساءل: أين كانت كل هذه الإبداعات العقلية مخفية طوال العقود الماضية؟ هل هي صدفة أن تصبح مجموعة دول مغمورة لم تكن بالحسبان كانت تسمى بالأمس القريب دول البداوة والصحراء، لا تملك سوى ثروات النفط في باطن الأرض وتعيش في وادٍ غير ذي زرع مبتلية برمال الصحارى ولهيب الشمس الحارقة، تصبح متفوقة على دول عريقة متقدمة في جميع المجالات؟ نعم، دول الخليج أصبحت محط أنظار العالم، ولم تعد مجرد دول نفطية مبذرة للأموال ومستهلكة للكماليات، فهي نماذج يُحتذى بها اليوم، وكأن هذه الدول صنعت الشرق الأوسط الجديد قبل أن تصنعه المخططات الدولية، وحجزت لها مكانة في الصدارة من غير إذن.

استطاعت هذه المجموعة من الدول أن تتحكم بأوراق اللعب السياسية في المنطقة بهدوء وحكمة، وكذلك استطاعت أن تتحكم بحركة التجارة والاقتصاد في المنطقة ومناطق أخرى من العالم، والأكثر من ذلك خلقت هذه المجموعة الخليجية المتفاهمة قنوات ومحطات إعلامية فضائية اخترقت جدار الصمت وتركت بصمتها في كل بيت، وتفوقت على دول عظمى بوسائط النقل الجوي والبحري، فأينما تدير وجهك تجد منجزًا جديدًا لهذه الدول. لقد انفجر الازدهار والرقي فجأة في هذه البقعة من الأرض، وكأن مصباح علاء الدين السحري قد وقع في أيدي قادة هذه الدول.

هل الثروات النفطية هي السر وراء هذه القفزة الخيالية لهذه الدول الصغيرة جدًا مساحة ونفوسًا باستثناء السعودية التي لها مساحة ونفوس أكبر؟ أكيد لا، ليس كل السر في البترول، لأن هناك دولًا نفطية أخرى في المنطقة والعالم لا تقل ثرواتها النفطية عن دول الخليج ما زالت تتراجع على جميع المستويات. خذ مثلًا فنزويلا وإيران والعراق واليمن ونيجيريا وليبيا وغيرها. تمتلك هذه الدول النفط وثروات أخرى غير النفط، ولها كثافة سكانية كبيرة وتأريخ صناعي، ولديها ثروات زراعية مشهودة، وتجري في أراضيها أنهار عظيمة، ولها عمق في التأريخ، وبالرغم من ذلك فهي في تراجع أو انكماش.

إذًا ما هو السر وراء هذه النهضة الإعجازية التي تخطت كل التقديرات، حتى أن بعض هذه الدول الخليجية أخذت تعمل مع مؤسسات الأبحاث الفضائية الدولية لتكون لها موطئ قدم في الفضاء الخارجي، فأصبحت قسم من هذه الدول فعلاً في مصاف الدول المتقدمة طبيًا وعلميًا وتعليميًا وعمرانيًا ورياضيًا وفي جوانب لا تعد ولا تحصى.

ملخص القول: عندما تفكر صح وتخطط صح وتعمل بجد وإخلاص سيكون نتاج تفكيرك وعملك فيه الخير الوفير، وتجد يد السماء تعاضدك لتبارك لك جهودك ومسعاك نحو العلا. وعندما تسير في الطريق الصحيح لابد أن تحتاج إلى الجرأة والعزيمة والتحدي، خاصة في محيط معقد وملتهب مثل محيط الشرق الأوسط، وتحتاج أن تمتلك الطموح الواضح لكي تستطيع أن تصل لمبتغاك. هكذا يمكن وصف الحال لمسؤولي دول الخليج. هذه الحقائق البسيطة السهلة في طرحها والصعبة جدًا في تطبيقها، في منطقة مليئة بالأحداث الدرامية المتسلسلة المفزعة والحروب غير المنقطعة والدسائس والمؤامرات المتنوعة، كلها عراقيل أمام أي تغيير جوهري.

لم أمدح في حياتي حاكماً قط، لكنني اليوم أرفع القبعة لمثل هذه القيادات التي صنعت من المستحيل الممكن، بل وفوق الممكن، وأعطت نكهة للحياة في بلدانها التي تفتقر لأبسط مقومات الحياة كالماء والزرع، وبالرغم من ذلك نهضت وفرضت شخصيتها على دول مهمة في المنطقة والعالم. فكما يبدو أن هذه القيادات امتلكت من النبوغ والحكمة ما يفوق زمانها.

وأخيرًا، لا بدَّ من القول إن خلو دول الخليج العربي من التنظيمات والأحزاب الأيديولوجية مهد الطريق لتنطلق هذه الدول نحو بناء الدولة الفاضلة، لأن مصدر الخراب والدمار لدول الشرق الأوسط هو الأحزاب الأيديولوجية التي تنخر البلدان كالسرطان. فكل ما أستطيع قوله: هنيئًا لشعوب دول الخليج التي كانت أهلًا لهذا التحدي الكبير، واستحقت بجدارة المكانة المرموقة التي وصلت إليها في التطور والبناء، وأقول لقيادات الدول التي خذلت شعوبها وجعلت بلدانها مستنقعًا للتخلف والصراعات غير المنتهية: هلا جلستم قليلًا مع أنفسكم وتراجعون أنفسكم وتسألونها أين أنتم من حركة الحياة؟ وإلى أين ذهبت بكم أيديولوجياتكم في الحكم؟ أليس من حقنا أن نطرح مثل هذه التساؤلات، خاصة وأننا نعيش بالقرب من دول الخليج ونرى بأم أعيننا ضوءها ساطعًا في السماء؟