الحلقة الثالثة

من بين ايام الدولة العباسية ايضا الصاعدة في ارجاء خيلائها، ومن بين صخور القسوة والتجبر والبذخ الذي لاحدود له، يطل شاعر حمل رتبة وزير، يطل

الأولى

الثانية

بوجهه الذي ترتسم عليه ملامح الترف والوجاهة والحدة والصلف، ليكشف عن مشاعره، يكشفها كأن ما منحته الوزارة من صلف وقسوة يذوبان مثل قطعة جليد تحت شمس ساطعة، ولا يجد الا ان يضج من البؤس الذي يحرق قلبه ويتصاعد دخانه في نفسه،فالمصائب لها فعلها في اعادة الانسان الى حقيقته الاولى، حقيقة كونه من لحم ودم ومشاعر ناعمة، كانت بمثابة صدمة اهتزت لها روحه وانتفضت معها تراكمات الايام التي رسمتها يد السلطة عليه، فأنسابت الدموع التي كان منبعها قد جف، وأجهشت الكبرياء بأشتعالات الوجد وتهاوت رمادا على عتبات المنصب.
هذا هو ابو جعفر محمد بن عبد الملك بن ابان بن حمزة المعروف بأبن الزيات المتوفى في عام (233 هجرية / 847 ميلادية)، الاديب البليغ والشاعر المحسن الذي يوصف بانه كان متكامل الاداء والوفاء الذي استطاع بذكائه وعلمه ان يصعد الى الوزارة وان يعمل وزيرا لثلاثة خلفاء عباسيين هم: المعتصم والواثق والمتوكل، وتذكر حوادث الايام ان قصة صعوده الى الوزارة طريفة وظريفة، وكما وصفت (انه صنع من علمه ولباقته سلما من القش الهش وصعد الى الوزارة) وقد جاء في (شذرات الذهب): (حدث ان الخليفة المعتصم سأل وزيره احمد بن عمار البصري عن الكلأ ماهو؟، فقال ان عمار: لا ادري، فقال المعتصم: اي حكم هذا؟ خليفة امي ووزير عامي، ثم قال: انظروا من بالباب، فوجدوا محمد بن عبد الملك الزيات، واحضروه اليه فسأله عن الكلأ، فقال: هو العشب على الاطلاق، فأن كان رطبا فهو الخلي، وان كان يابسا فهو الحشيش، ثم شرع في تقسيم النبات، فأستوزره وارتفع شأنه)، وسرعان ما تغير بفعل السلطة واصبح (فظا غليظا ظالما) حتى قيل عنه (كان مضرب المثل في الانحراف بعد الاستقامة)، كما قيل فيه: (دخل الوزارة وليس له عدو واحد، وخرج من الوزارة وليس له صديق واحد)، وابن الزيات هو صاحب المقولة الشهيرة (الرحمة خور في الطبيعة، وضعف في المنة)، وكان يرددها على اسماع كل من يطلب منه ان يرحمه، وكان لايرحم احدا كما كان يقول، ومن ظلمه أنه صنع تنوراً (في زمن المعتصم) من النحاس وجعل فيه مسامير رؤوسها من داخل التنور فكان يلقي فيه المذنبين بادعائه، فكان المحبوس لا يتمكن إلا من الجلوس بدون أن يتمكن من الاتكاء فيبقى في أشد العذاب، وإذا قيل له: يا وزير ارحمنا قال:( الرحمة خور في الطبيعة)، ولما وصلت الخلافة إلى المتوكل أمر بخلعه من الوزارة لما كان أساء إليه قبل ذلك، وأمر بحبسه في التنور نفسه الذي صنعه لتعذيب الآخرين، وقال له: ذق ما كنت تذيق الناس، فطلب عطف المتوكل فأجابه المتوكل: الرحمة خور في الطبيعة، وبقي في التنور محبوساً أياماً مكبلاً بسلسلة في رقبته زنتها خمسة عشر رطلاً وطلب من سجانه أن يعطيه ورقة وقلماً، فكتب فيها إلى المتوكل هذا الشعر:

هي السبيل فمن يوم إلى يوم
كأنه مــا تريك العين في النوم
لا تجزعـــنّ رويــداً أنها دول
دنـــــيا تنقل من قوم إلى قـوم
لكن هذا الفظ الغليظ القلب القاسي المتدرع بقوة السلطة وعنجهيتها،المختال بها، حين ماتت زوجته، وجد نفسه يتحول الى كتلة من المشاعر، تحول الى انسان يتحسس الرأفة، صارت قسوة هشة وتناثرت مع ريح الحزن الذي غمرته، فبكاها من خلال ولده الصغير، كان يتحجج ويلتمس العذر من اللائمين في الطفل الصغير الذي فارقته امه وهو ابن ثمانية اعوام ولايعي من الحياة سوى امه، كأنه يريد ان يقول ان بكاءه على الطفل وليس على امه، فكانت عيونه تتحسس التقاليد التي يجدها تشكل مانعا للبكاء على الزوجة ورثائها، فأنطلق من الطفل يعبر عن خلجات نفسه، لذلك جاء المطلع:

الا من رأى الطفل المفارق امه
بعيد الكرى، عيناه تنسكبان

انه يضع صورة ابنه امام الاخرين يرسمها بألمه الذي يحاول ان يخفيه عن الانظار، يجعل الحالة خاصة بولده المتأثر برحيل امه حيث تباعد عنه النوم، وعيناه لاتعرفان غير ذرف الدموع بشكل متواصل، لكن احتراقه الداخلي سرعان ما تظهر اشتعالاته وقد عجز عن اخفاء ما لا يخفى، فبعد ان يتظاهر بالحزن على الطفل ويصف حالته وامه بعيدة عنه، ويغلف مشاعره بعذابات الطفل، نجد زمام الامر يفلت منه ويعترف ببكائه حين يقول:

الا ان ّ سجلا واحدا ان هرقته
من الدمع او سجلين قد.. شفياني
فلا تلحياني ان بكيت فأنما
اداوي بهذا الدمع ما تريان

والسجل هنا: (الدلو إذا كان فيه ماء قلّ أو كثر)، وهذا يعني انه يؤكد على انه اراق دلوا من الدمع او دلوين، وهذان شفياه مما هو فيه من حزن وجزع، ومن ثم يطلب من الاخرين ان لا يلعنانه ان مارس فعل البكاء، لانه يداوي به ما هو عليه، يداوي حالته التي تدهورت بسبب غياب زوجته، ومن ثم يعمد الى ان يتحدث عنها بشكل واضح، ويرسم مدارات الحب اليها ومكانها الحقيقي الذي يؤكد انه كان في قلبه، وان القبر الذي صارت فيه يستحق الزيارة،ومن ثم يعود الى تقرير الذي في نفسه من انه قد يتحمل صبر الفراق، ولكن كيف بالصغير الذي لايفهم ما يفهمه الكبار:

بني عزمت الصبر عنها لانني
جليد، فمن بالصبر لابن ثمان
ضعيف القوى لايطلب الاجر حسبه
ولا يأتسي بالناس في الحدثان

ويمضي ابن الزيات في رثائه الذي تشعر انه يصل الى حد العويل على زوجته الراحلة ويذكرها بالخير ويأسو عليها بنوع من الجزع واليأس وصولا الى مخاطبة عينيه اللتين تدمعان وقد فارقا السرور والبشاشة، ويعتصره الحزن ليصل الى حالة يرثى لها من البؤس في صراخ يسمعه القاصي ويشرح عذابات فقد الزوجة الحبيبة التي احتضنها الثرى.
ان ابن الزيات سكب عصير مشاعره الحقيقية على عتبات الغياب لزوجته وام ابنه، ورسم صورة معبرة عن الواقع ذاك، فعاشت قصيدته لتكون عبارة عن حالة متناقضة مع صورته وهو المختال بالسلطة.

القصيدة:

الا من رأى الطفل المفارق امه
بعيد الكرى، عيناه تنسكبان
رأى كل أم وابنها غير امه
يبيتان تحت الليل ينتجيان
وبات وحيدا في الفراش تجنه
بلابل قلب دائم الخفقان
الا ان سجلا واحدا ان هرقته
من الدمع او سجلين قد شفياني
فلا تلحياني ان بكيت فأنما
اداوي بهذا الدمع ما تريان
وان مكانا في الثرى خط لحده
لمن كان من قلبي بكل مكان
احق مكان بالزيارة والهوى
فهل انتما ان عجت منتظراني
فهبني عزمت الصبر عنها لانني
جليد، فمن بالصبر لابن ثمان
ضعيف القوى لايطلب الاجر حسبه
ولا يأتسي بالناس في الحدثان
الا من امنيه المنى وأعده
لعثرة ايامي وصرف زماني
الا من اذا ما جئت اكرم مجلسي
وان غبت عنه حاطني وكفاني
فلم أر كالاقدار كيف تصيبني
ولا مثل هذا الدهر كيف رماني
ولا مثل ايام فجعت بعهدها
ولا مثل يوم بعد ذاك دهاني
أعيني ّ ان انع السرور واهله
أعينيّ ان لم تسعدا اليوم عبرتي
فبئس اذن مافي غد تعداني
وعهد الرضا عندي فقد نعياني
أعينيّ ان ابك البشاشة والصبا
فقد آذنا مني، وقد بكياني
الا ان ميتا لم أزره لشدّ ما
تلبس من قلبي به وعناني
الا ان ميتا لم ازره لعز ّ ما
تضمن من في الثرى الكفنان