-1-
لماذا تقدمت مصر، وتأخر العرب؟
سؤال غريب ومستهجن.. أليس كذلك؟!
فمن العادة أن نتساءل دائماً:
لماذا تقدمت اليابان، وتأخر العرب؟
وهو السؤال الذي حاول الإجابة عليه عدة باحثين، على رأسهم المؤرخ اللبناني مسعود ضاهر، والمتخصص في التاريخ الياباني، من خلال كتبه الثلاثة: quot;النهضة العربية والنهضة اليابانيةquot;، و quot;النهضة اليابانية المعاصرةquot;، و quot;تاريخ اليابان الحديثquot;، ومقالاته عن هذا الموضوع، في كثير من المجلات الثقافية المتخصصة.
لكن سؤال اليوم، ليس للمقارنة بين اليابان والعرب، ولكن بين مصر والعرب.
وهذا هو الجديد فيما أظن!
-2-
فمصر الآن، رغم فقرها (مقارنة بالدول العربية المنتجة للبترول) هي أغنى من هذه الدول جميعها مجتمعة ليس بمالها، وثرواتها الطبيعية، ولكن بفنها، وأدبها، وعلمها، وجامعاتها، وكذلك بطليعيتها، وهذا هو الثراء الحضاري الثمين.
ومصر، رغم انفجار عدة قنابل سكانية فيها منذ 1952 والى الآن، وحيث وصل عدد سكانها إلى 84 مليون نسمة الآن، فهي ما زالت بخير، رغم ازدحام عاصمتها، وطرقها، ومقابرها، وكباريها، ومن يعيشون تحت هذه الكباري. والزيادة السكانية هي علَّة مصر الكبرى. ومن يحاول أن يخفف من آثار هذه المشكلة، بمقارنتها بالصين، أو الهند، أو البرازيل، أو أي بلد آخر كثيف السكان، فالمقارنة هنا فاشلة. فلكل بلد خصوصيته. ثم من قال أن الصين لا تعاني من الفقر، وسوء تنفيذ خطط التنمية، نتيجة لهول عدد السكان. كذلك الحال في الهند.
-3-
ولكن ما سر تقدم مصر رغم هذا كله، وتأخر العرب؟
قارن مسعود ضاهر، بين العرب واليابان، وبيّن أسباب تقدم اليابان، وتخلف العرب. علماً أن العرب - متمثلين بمصر - كانوا أسبق في النهضة من اليابان. وكلنا يعلم أن اليابان أرسلت في القرن التاسع عشر - في عهد الميجي - وفداً يابانياً إلى مصر محمد علي باشا، لكي تتعرف على أسباب نهضتها، وتأخذ بهذه الأسباب.
لقد لخص مسعود ضاهر، أسباب تقدم اليابان وتأخر العرب بعوامل كثيرة، منها افتقاد العرب إلى سلطة مركزية قوية لبناء الدولة، وفشل العرب في المزج بين الحداثة الغربية والتقاليد العربية، في حين نجحت اليابان في ذلك. وهذا يعني أنه لا يمكن أن تحمي الأصالة إلا الحداثة؛ بمعنى الحداثة السليمة، وليست تقليد الآخرين. فإذا كان لديك تقاليد إيجابية، فالحداثة لا تتنكر لهذه التقاليد. والعامل الآخر لتخلف العرب، أن العرب ما زالوا حتى الآن مقصرين في إعطاء المرأة حقوقها الكاملة، والمساواة بينها وبين الرجل، في حين أن اليابانيين اعتبروا المرأة ndash; قولاً وفعلاً - عماد المجتمع، وعماد الدولة. وهكذا استطاعت اليابان بتجربتها النهضوية الرائدة ndash; كما يقول مسعود ضاهر ndash; من أن تقود النمور الآسيوية. فالنمور الأسيوية ndash; بما فيها الصين - أخذت تجاربها من اليابان. وهي التجربة التي تلخّص كيفية الدخول في المعاصرة مع الحفاظ على الأصالة.
وهذا ما فعلته مصر في عهد محمد علي باشا وأبنائه، فنهضت. ولم يفعله العرب فتخلَّفوا.
-4-
علينا جميعاً أن نقرأ كتاب طه حسين quot;مستقبل الثقافة في مصرquot; الذي صدر عام 1938. ومن قرأه منا، عليه إعادة قراءته مرة أخرى. ومن قرأه مرة ثانية، عليه بقراءته مرة ثالثة ورابعة وخامسة، ووضعه تحت وسادته، كأي كتاب مقدس، كما كان يفعل الأمريكيون في كتاب quot;الحصافةCommon Sense quot;، الذي كتبه الفيلسوف السياسي البريطاني/الأمريكي توم بين Paine، والذي كان بمثابة quot;إنجيلquot; الثورة الأمريكية.
فرغم أن كتاب quot;مستقبل الثقافة في مصرquot;، يبحث في مستقبل التربية والتعليم في مصر، وكيف يجب أن يكون، إلا أنه في صفحاته الخمسين الأولى يفسر لنا تفسيراًٍ علمياً، وتاريخياً، وليبرالياً الأسباب التي أدت إلى تقدم مصر وتأخر العرب عنها. ويضع الأصبع على الجرح والنقاط فوق الحروف، لا تحتها. ومن هذه الأسباب:
1- الحرص على أن تكون حياة مصر الحديثة ملائمة لمجدها القديم. وأن يكون نشاطها الحديث محققاً لرأيها في نفسها حين كانت تطالب بالاستقلال، ومحققاً لرأي الأمم المتحضرة حين رضيت لمصر بهذا الاستقلال!
2- الحرص على عدم لقاء الأوربيين بالشعور بأن بينهم وبين المصريين من الفروق ما يبيح للأوربيين بالاستعلاء على المصريين والاستخفاف بهم، حتى لا يضطر المصريون إلى ازدراء أنفسهم. ويدعو طه حسين إلى الاتصال القوي الصريح مع أوروبا. فهؤلاء الذين يشفقون على حياتنا الدينية من الاتصال مع الغرب، عليهم أن يعلموا، أن الحياة الغربية ليست إثماً كلها وليست خيراً كلها. وأن الإثم الخالص، لا يُمكِّن من الرُقي، الذي ينعم به الغرب.
3- من المحقق، أن تطور الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد، بأن وحدة الدين، ووحدة اللغة، لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية، ولا قواماً لتكوين الدول. وقد جرّبت مصر هذا مع بلاد الشام وسوريا مرتين. الأولى، في عهد محمد علي باشا، عندما استولى ابنه إبراهيم باشا على بلاد الشام وحكمها مدة ثمانية سنوات (1830-1838) ثم هزمته القوى الدينية المحافظة، رافضة الانفتاح، والحداثة المصرية. والثانية، في الوحدة المصرية - السورية (1958-1961) حين رفضت سوريا الحكم العسكري ndash; البيروقراطي - الاستخباراتي المصري لها. ولكن، ما زال الكثير من الباحثين العرب يؤكدون على ضرورة فاعلية عوامل الدين واللغة والعرق على تحقيق الوحدة العربية، رغم أن quot;الاتحاد الأوروبيquot; أثبت بالبرهان الواقعي القاطع، عدم فاعلية هذا العامل في الوحدة بين الشعوب.
4- كان العقل المصري إلى أيام الاسكندر المقدوني مؤثراً في العقل اليوناني ومتأثراً به، مشاركاً في كثير من خصاله. فأصبحت مصر دولة يونانية أو أشبه باليونانية. وأصبحت الإسكندرية عاصمة من عواصم اليونان الكبرى في الأرض، ومصدراً من مصادر الثقافة اليونانية للعالم القديم. واتخاذ مصر بعد ذلك الإسلام ديناً لها، والعربية لغة لها، لم يُخرج مصر عن عقليتها الأولى. فالمسيحية غمرت أوروبا فلم تصبح أوروبا شرقية.
5- اتصل الإسلام بالفلسفة اليونانية، فأثَّر فيها وتأثَّر بها. وأسلمت الفلسفة اليونانية، وتفلسف الإسلام في مصر. كذلك اتصلت المسيحية بالفلسفة اليونانية قبل ظهور الإسلام، فأثَّرت فيها وتأثَّرت بها. وكانت الفلسفة في مصر، مقوِّماً من مقومات هذا العقل. في حين رفض العرب الفلسفة في خارج مصر. وقال عنها أبو حامد الغزالي (1095-1111م) إنها مجرد quot;تهافتquot; وكتب فيها كتابه (تهافت الفلاسفة)، مهاجماً ابن رشد (1126-1198م) الذي ردَّ عليه بكتابه (تهافت التهافت).
(ولم نكمل بعد، فلنا عودة)
السلام عليكم.
التعليقات