يُنْبِئُ المشهد السياسيّ في تونس اليوم عن quot;إسهال ثوريّquot; عارِضٍ عند كثير من السياسيين الجدد، وعن نضاليّة جهاديّة استيقظت فجأة بعد نوم طويل. وقد عَسَّرَ هذا الزواجُ العُرْفي بين الإسهال والنضاليّة، عمليّة الفرز بين الممارسة quot;السياسويّةquot; الطوباويّة، وبين الرؤية السياسيّة الثاقبة التي لا تُسوّق للوهم، ولا تبيع الأحلام الزائفة إلى مساكين حلموا بالجنّة بعد الجحيم، وبالنعمة بعد الحاجة والحرمان والخصاصة. وغاب عن كثير من الواهمين أنّ بينَ الخطاب السياسيّ الحماسيّ المنفلت، المصبوغ بالنضاليّة quot;الشعبويّةquot; التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وبين فنّ قيادة الشعوب في أحلك الظروف مسافةً دقيقةً لا يُتْقِنُ عبورَها إلّا نبيه نخّلت حكمتَه تجربةُ السنين. هي مسافة شفيفة أشبه بتلك التي تفصل بين الجنون والعبقريّة.
و في سياق هذا الانفلات اللسانيّ والأيديولوجيّ الذي نمت منه مشاتل في التربة التونسيّة، يبدو أن فريقا من التونسيين قد شعر بأنّ البلاد قد نجحت في حلّ كلّ ملفّات الفقر والبطالة والمديونيّة والحرّيات، التي عجّلت بسقوط quot;بن عليquot;. فاستقرّ عزمها على أن تتفرّغ لملف الإعلام الفاسد، وأن تسارع بتطهيره كلّفها ذلك ما كلّفها!! ولذلك يرابط، منذ أكثر من شهر، محتجّون أمام مبنى التلفزة الوطنيّة احتجاجا على أدائها الذي لم يختلف ndash;على حدّ زعمهم- عمّا كانت عليه أيّام quot;بن عليquot;. وقد تضخّم quot;الاعتصام السلميquot;. وتورّمت أعراضه إلى أن تحوّل إلى استفزاز يوميّ للعاملين في التلفزة الوطنيّة، عند دخولهم وخروجهم من مقرّ عملهم، وإلى تعنيف لبعضهم. وما يُسند تحرّكات المحتجين الذين ينعمون بالدفء أمام مقرّ التلفزة، وبالمعونات التي تأتيهم من مصادر مجهولة عند المارّة، معلومة عند أصحاب القرار!!، هو اللين الذي ميّز تعاطي السلطة التنفيذيّة والقضائيّة مع هؤلاء الذين يريدون quot;تطهيرquot; الإعلام ، والقضاء على دنسه الذي أضرّ بالبلاد والعباد. فالسلطة القضائيّة ترى أنّ الاعتصام أمام مبنى التلفزيون لا يعطّل حركة المرور، ولا يخلّ بالأمن العام!! وقد زاد من حماس المحتجّين، إعلان النائب عن حركة quot;النهضةquot; في المجلس التأسيسيّ السيّد quot;عامر لعريّضquot; عن ضرورة خصخصة الإعلام سبيلا لتطهيره، وجعله يساير الحالة الثوريّة التي تعيشها تونس اليوم!! ويبدو أنّ مفهوم quot;المهنيّةquot; وquot;الحرفيّةquot; لا يتحقّق ndash;حسب كلام النائب- إلّا بخصخصة التلفزة. وإذا كان ما أدلى به السيّد quot;عامر لعريّضquot;مجرّد وجهة نظر تُناقَشُ، فإنّ الغريب هو أن تدعو إلى تطهير الإعلام، مجموعة من الغرباء والدخلاء على المهنة، لا يحتكمون إلى أسس معرفية صلبة تمكنهم من معرفة علل الإعلام في تونس، وتبيّن سُبُل علاجها. فهل يمكن لفاقد المعرفة بقطاع الإعلام المتشعّب، أن يُفْتي فيما يجهله، وأن يحسم في مسألة غابت عنه أصولها ودواليبها!؟؟. إذن أليس شعار quot;إصلاح الإعلامquot; المزعوم مقدّمة لإخضاع هذا الإعلام الذي انتفض من قيوده، وتركيعه تمهيدا للعودة به إلى ما كان عليه من سعي لتأييد الحاكم وتأبيده؟وهل يمكن أن يرفع مثل هذا الشعار غير أهل المهنة وهم أدرى بشعابها؟. في الحقيقة، من الغريب أن يُناصب نوّاب في المجلس التأسيسيّ، و وزراء في حكومة شرعيّة انبثقت عن إرادة الشعب، العداء لغرفة الأخبار في القناة الأولى رغم إجماع أهل المهنة، في تونس وخارجها، على أنّ نشرة الساعة الثامنة على القناة الوطنيّة، أصبحت تحظى بنسبة مشاهدة كبيرة بعد أن اكتشف المشاهد قدرة الصحفي التونسيّ على الإبداع متى تنفّس نسيم الحريّة. فهل يجب أن يكون الإعلام الحكومي ببغاء يردّد ما تقوم به الحكومة، ويجترّ نشاط رئيس الدولة حتّى وإن لم يتجاوز قبول أوراق اعتماد سفير كي ينال الإعجاب ويؤكّد وطنيته !! ؟
ليس من الإصلاح أو التطهير، محاولة طرف سياسي إرغام quot;التلفزة الوطنيّةquot; على أن تكون طَوْعَ أمره، وإجبارها على أن تتحوّل إلى ناطق رسميّ باسم quot;الائتلاف الحاكمquot; فتعود فعلا كما كانت عليه زمن الرئيس السابق. و ليس مطلوبا إلى الإعلام العمومي أو الخاص أن يكون مع الحكومة أو ضدّها. وفي المقابل لا أحد مخوّل له أن يزايد على وطنيّة الإعلام التي لا يجب أن تقاس بقدر متابعته لنشاط الحكومة.
إنّ الظرف الدقيق الذي تعيشه البلاد يجعلها بحاجة، عند فتح ملفّات الإصلاح، إلى حكيم لا إلى مُتطبّب يحاول أن يداوي عطبه quot;الأيديولوجيquot; والسياسيّ باختلاق معارك وهميّة مع إعلام يتحسّس طريقه ليكون رافدا من روافد التنمية بعيدا عن التقديس المخلّ والتدنيس المشين.