quot;إنّ مَنْ يجني ثمار الثورات هم أسفل السفلةquot;(جورج دانتون)

quot;الزغاريد أكثر من الكسكسيّ quot;مَثَلٌ شهير في تونس يُرَدَّدُ كلّما كان الكلامُ أكبرَ من حقيقة المَوْصُوف، والمُتَحَدَّثِ عنه. مَلْفُوظُ هذا المثل ومعناه يرسمان صورة معبّرة عن حقيقة المشهد السياسيّ التونسي الآن، وما يميّزه من تجاذبات حادّة قد تمزّق وحدة هذا الوطن التي صمدت طويلا في وجه كلّ محاولات بثّ التفرقة والشقاق بين أبناء الوطن الواحد.
منذ سقوط نظام quot;بن عليquot; تعوّد المواطن على أن يصحو على خطاب حماسيّ يصدر عن طرف سياسيّ متوثّب للحكم والسيطرة، وأن يغفو على آخر يصدر عن جهة سياسيّة معارضة تحاول أن تجبّ ما قبلها.والغريب أنّ كلّ هذه الخطب الناريّة تنتهي بوعود رنّانة لكنها خاوية خَوَاءَ طبل حكايةquot;كليلة ودمنةquot;.وعندما يتوارى التصفيق بسرعة يجد المواطن نفسه كالقابض على الماء بالأصابع لا يظفر بما يمكن أن يُشْفي غليله. وانطلاقا من ظهور نتائج الانتخابات، وتقدّم حزب حركة النهضة على منافسيه، لم يتوقف السجال بين المعارضة والحكومة.الثلاثي المتحالف في الحكم الذي أمسك بمقاليد السلطة، حاول أن يوزّع الغنائم على أنصاره ومناضليه دون أن ينظر مليّا إلى الوضع الاقتصادي الصعب الذي يمرّ به العالم، والذي يحتّم تجنيد الخبراء للمساهمة في إخراج البلاد من المطبّ الاجتماعيّ والاقتصاديّ الذي وقعت فيه! وأصبح كلّ نقد أو لوم يُوَجََّه إلى الحكومة، أو مطالبة ببرنامج اقتصادي واضح، يُنْظَرُ إليه على أنّه محاولة لعرقلة المسار الديمقراطي، ولعبة قذرة الغاية منها إفشال عمل الحكومة، والسعي لإسقاطها..وبلغ الغضب ببعض الوزراء إلى حدّ اتهام أطراف في المعارضة بالتآمر. وأوعزوا إلى جريدة يوميّة كي تكشف عن هذه المؤامرة التي كذّبها وزير الداخلية quot;علي لعريّضquot; بخطاب هادئ وواضح. وانتقلت الحرب بين الحكومة والمعارضة من داخل أسوار البرلمان ، إلى الشوارع .فعاشت تونس في التاسع من أفريل الذي يوافق الاحتفال بعيد الشهداء في تونس، يوما لاسعا من العنف والتصادم كانت البلاد في غنى عنه.
إنّ المشهد السياسيّ اليوم ينبئ عن حكومة شرعيّة. لكنّها متردّدة، يفتقد أعلب عناصرها إلى الخبرة ما أعطى انطباعا بأنها غير قادرة على وضع برامج وتصورات واضحة لمجابهة المشاكل الاجتماعيّة والاقتصادية الخانقة .ولعلّ هذا التردّد الذي يشبه العجز عن الفعل والمبادرة، هو الذي يفسّر quot;الحساسيّةquot; المفرطة تجاه كلّ نقد من المعارضة، أو مطالبة بإجابات واضحة عن أسئلة حارقة.وإذا كان بعض الوزراء في الحكومة قد شرعوا في الانكباب على الملفات الثقيلة التي تملأ أدراج مكاتبهم وخزائنها، بعيدا عن الضجيج الإعلاميّ، فإنّ آخرين خانتهم حكمة الوزير ورصانته، فأطلقوا عنان ألسنتهم لتصريحات ناريّة يبدو فيها الوزير مناضلا سياسيا يقوم بتعبئة الجماهير أكثر منه مسؤولا يعالج الأوضاع بصرف النظر عن تداعياتها السياسيّة.ويبدو أن تنسيق الظهور في وسائل الإعلام مع رئيس الحكومة مفقود بدليل تباين آراء الوزراء أحيانا في مقاربة مسألة من المسائل .فهل من الحكمة السياسيّة أن يتحدّث وزير الخارجيّة بِسُوء عن المعارضة وهو في جولة خارجيّة الغاية منها التعريف بتونس الجديدة والتشجيع على الاستثمار!؟وهل كان ضروريّا أن يتّهم وزير الشباب والرياضة المعارضة بالتآمر وهو الذي لا يملك مؤهلات علميّة أو خبرة سياسية تمكنّه من سبل النجاح في أداء مهامّه؟؟؟
على أنّ تحميل الحكومة وحدها كلّ ما يجري على الأرض يعدّ إجحافا ومبالغة في تقييم الأمور.؟فهل المعارضة التي فضّلت أطراف منها الجلوس على الربوة، غير معنيّة بما آلت إليه الأوضاع في تونس؟
لا اختلاف حول دور المعارضة في تعزيز المسار الديمقراطي، ومراقبة الحكومة كي تقطع طريق التسلّط والديكتاتورية.لكنّ أداءها لم يتجاوز التركيز على الأخطاء، والهنات دون المبادرة بتقديم بدائل حقيقيّة يمكن أن تستثمرها الحكومة للتصحيح أو التعديل. وبدت هذه المعارضة المشتّتة وكأنّها لا تبغي إلا كشف قلة خبرة الوزراء، وسوء تصرفهم.ومعلوم أنّ مَنْ يُعالجِ الأوضاع ميدانيّا يكون في وضع أصعب من ذلك الذي يراقب عن بعد وينتظر زلّات الآخر.
إنّ المعارضة تكون فعّالة عندما تتحوّل إلى قوّة اقتراحيّة ضاغطة لا تتوانى عن كشف الأخطاء بعيدا عن الحسابات السياسية الضيّقة، ولا تتردّد في دعم قرارات الحكومة، وإسنادها متى كانت صائبة حتى وإن لم تجد قبولا عند الجماهير التي تحتكم دائما إلى العاطفة.ولم يظهر على السطح ما يفيد أنّ هذه المعارضة تملك مشروعا بديلا يمكن أن يُعْتَمَد متى استدعت الضرورة توسيع الحكومة لتنفتح على أحزاب أخرى.
من الواضح أنّ لعبة الكرّ والفرّ بين الحكومة والمعارضة، لا تقدّم أجوبة شافية عن أسئلة المواطن الذي انتفض من أجل الخبز والكرامة، و لا يجد نفسه معنيّا بهذه المعارك الأيديولوجية والحزبيّة..فلماذا تسعى المعارضة إلى تسييس بعض المطالب الشعبيّة، ولماذا تعمد أطراف من quot;الترويكاquot; إلى التعامل مع هذه المطالب وفق مقاربة حزبيّة ضيّقة؟؟
لا بديل عن التوافق .لأنّ الوطن يئنّ مما تعيشه البلاد من مراهقة سياسيّة وتَصَاب أيديولوجي.