فاطمة خير : لم أكد أصل إلى مقرّ عملي حتى بادرني زميل لي لم يكلمني منذ مدة بتحية الصباح مصحوبة بابتسامة خاطفة . تناسيت إجهاد الطريق الذي ضاعفه الصوم وهرعت إلى مكتب زميلتي علها تملك الجواب الشافي لهذا التحول المفاجئ في تصرفات الزميل .
وكانت المفاجئة الثانية التي أطاحت بالأولى، فالزميلة التي لطالما كرهت وضع الحجاب كانت تغطي شعرها "بإيشارب" .. والسبب كما صرحت هو الصيام . ولهول المفاجأة كررت سؤالي بإلحاح فجاء التفسير الموسع . فالجيران يلومونها على خروجها " في وضح النهار خلال شهر الصوم ، وحتى " تشتري دماغها " قررت الخضوع ووضع الإيشارب كي تتفادى المواعظ اليومية . هذا الإيشارب الذي يخدمها مسافة طريق الذهاب إلى العمل والعودة إلى المنزل ، فلا داع للإلتزام به في مقر العمل البعيد عن أعين الجيران .
مؤخرًا نشرت دراسة قام بها باحثون مصريون، أشارت إلى تزايد السلوك الطيب بين المصريين خلال شهر رمضان ،وأن نسبة الكلمات التى تعبر عن المودة والحب والصداقة والاخوة والعرفان والتسامح ، تزيد الى ما يقارب الضعف فى هذا الشهر ،وفي المقابل فان الكلمات النابية تقل بشكل كبير ،ويرجع ذلك الى رغبة الناس فى التحلي بأخلاق أفضل!
قد يتطلع الناس إلى الإلتزام بالصوم " المعنوي " والإرتقاء إلى مستوى أعلى من الأخلاقيات وعدم حصر الصوم بالإمتناع عن الطعام فقط .. لكنه لا يتعدى الرغبة المحصورة في 30 يومًا .
فهذا الزميل الذي بادرني بتحية الصباح وابتسم لي لا بد أن يعود إلى سابق عهده بعد انتهاء الشهر . وزميلتي التي ارتدت الحجاب المؤقت أرادت تجنب الإزعاج وإن كانت غير مقتنعة بالسلوك الجديد الذي تبنته .
فكل هذه التصرفات هي لإرضاء الآخرين ومحاولة للتملص من حوار تعلن من خلالها عن قناعاتها وحقها في ارتداء ما تشاء .
ولا يتوقف الحد عند هاتين الحالتين فقط ، فأي سلوك جديد الآن ،صار يتبعه الآخرون دون تفكير،وعندما تتغلب الأغلبية يصبح السلوك أمرًا واقعًا لا مفر منه. وفي الفترة الاخيرة صار لرمضان أخلاقًا خاصة به ،تمامًا كطقوسه، مثل ارتداء غير المحجبات للحجاب فقط فى رمضان، والصلاة فقط فى رمضان، وإمساك اللسان عن الالفاظ البذيئة،أيضًا في رمضان فقط .. وكأن هذه الاخلاق لا تصلح سوى فى رمضان، وأن من يفعلون ذلك لا يريدون تكليف أنفسهم عناء ممارستها خارج إطار الصوم رغبةً فى التمسك بسلوك ما ،دون النظر الى مدلولاته أو مدى اقتناعهم به. وليست مصادفة أن يتوازى ذلك مع انتشار سلوكيات سطحية يدعي البعض أنها ترتبط بالاسلام ، ولعل هذا المشهد يوضح هذه "الموضة الاخلاقية".
المكان.. مترو الانفاق ، في عربة السيدات ، زحام فوق العادة بسبب رمضان، فتاة شابة ترتدى حجابا وتجلس تقرأ القرآن باستغراق شديد .تقف أمامها سيدة حامل فى الشهور الاخيرة ، لكن الفتاة لا تلتفت اليها .
في المحطة التالية تصعد سيدة مسنة ولتقف بجوار السيدة الحامل ،وأيضًا لا تعيرها الفتاة انتباهًا ما دفع العجوز الى الطلب من الفتيات الأصغر سنًا بالتخلي عن مقعد ..لكن الفتيات الاصغر سنًا مستغرقات فى قراءة القرآن والاستغفار .

المشهد ليس نادرًا حتى فى غير رمضان ،لكن فى رمضان تغرق الفتاة في قراءة القرآن أو آيات الاستغفار والتسابيح لمحو ذنوبها ، ما يترك لها وقتًا قصيرًا لفعل أي خير .
أخلاق لرمضان فقط باتت موضة تعود مع عودة رمضان كل عام ، فمن الطبيعي أن يكون سكان القاهرة أكثر مودة في رمضان ، ثم يعودون لسوكهم العادي بعد انتهائه . لكن الخطير هو النظرة السطحية لكل سلوك ،ولأي سلوك ، فالشاب يرفض أن تقيم أخته علاقة عاطفية يقيم هو مثلها مع فتاة يحترمها، والفتاة المحتشمة فى لباسها تقف لتتبادل القبل مع شاب فى مكان عام، وفعل الخير هو التسبيح لله وحسب وليس مساعدة الغير، والتسامح عن العداوات مطلوب في رمضان وحده!