جاد نصرالله : بإنتهاء السنة الدراسية، وككل عام، يسعى الكثيرون من الطلاب الجامعيين للفوز بفترة تدريبية خلال فصل الصيف. كل واحدٍ بحسب مجال تخصصه. في الواقع، ليس أمر التدرب على الأعمال التطبيقية خارج برنامج المواد المقررة مطلوبا مني رسميا. إذ لست مجبراً على تمضية عدد معين من الساعات في شركة أو مؤسسة ما، ولا على تقديم تقرير يلخُصُ الأعمال التي قمت بها والجديد الذي تعلمته خلال فترة التدرب. كل ما في الأمر،همّ شخصي أحمله دائما.. أحملهُ بحماسة أصبحت تفتر سنة بعد سنة وصيفا بعد صيف . هو سعيٌ لإطفاء الحاجة إلى أوراق خبرة تطلب دائما عند التقدم إلى عملٍ أو وظيفة ما . أشغل بالي جدا بالحصول على تلك الأوراق وأحاول في الإكثار من عددها طرد شبح الوساطة الذي يتراءى لي في غير أوقات الليل أيضا. سأتخلص من عقدة الكسالى الذين دائما ما يعزون أسباب فشلهم إلى عدم تزكيتهم من قبل وسيط ذي شأن، "معدل العلامات العالي والخبرة الجيدة هم واسطتكم".. هي اللازمة التي خدشت أمهاتنا آذاننا بها. الأمهات تطمئنّ النفوس دائما، وهن لسن بكاذبات.
في الصيف الذي أعقب العام الدراسي الأول، قيل لي إنني لا أزال طريَّ العود، "ما زلت تتعلم ألف باء ما تتخصص به. لا تتعب نفسك بالسؤال، لن يقبل بك أحد لتتدرب لديه، ستستنفذ الكثير من وقت مدربك. لا تستعجل، فما زال الوقت باكرا. لا تقلق، أمامك سنين أخرى".
...في صيف العام الثاني، زاد إلمامي بما أدرسه وما أصبحت أمتلكه من أدوات كان يخولني إختبار الأمور ميدانيا. سأسأل بنفسي، الخيارات التي توفرت لم تكن ذو قيمة. كان من الأجدر أن أبدأ البحث من أجل حجز مكان لي في وقت أبكر.
لكني قُبِلتُ في إحدى الإدارات العامة حيث أمضيت شهرين كاملين هناك. إستفدت كثيرا هناك ، فقد عرفت كيف يقضي موظفو الدولة معظم نهاراتهم، يقرأون الجرائد ولا يشبعون من شرب القهوة. عيونهم مثمّرة على ساعة علقت على الحائط وبواسطتها يعدّون عكسيا دقائق الساعات الثماني للدوام الرسمي. فهمت معنى العبارة الشائعة: "ورقةٌ منسيّة في الدُرج".. وما اكثر الاوراق! ليس آخرها واحدة تؤكد إنهائي للفترة التدريبية. ما زلت أرجو الحصول عليها، ربما سأستلمها وشهادة التخرج.
...في الصيف الذي مضى، أصبحت أكثر تمكنا. أردت إستهداف الشركات والمؤسسات الكبيرة . "هم من سيستفيد، سأعمل لديهم كأي موظف آخر في حين لن اتقاضى مرتبا. هي لست بسخرة، فالمال ليس ما أطمع به حاليا". بدأت بدق الأبواب باكرا، المهمة غير صعبة. كل ما عليّ فعله هو التخلص من خجلي فالأمر برمته لا يتعدى السؤال، إمّا نعم وإمّا لا، لم يكن لدي ما أخسره. لست بحاجة إلى وسيط يزكيني (غبي!). تسلّحت بالهاتف وأصابع يدي (المؤدبة منها) وسطاءً. الهاتف، أضغط على ازراره ، طالبا أرقامهم مرارا وتكرارا، ولا احصل على جواب نهائي. كلّ يحيلني الى آخر، أنتظر مستمعا إلى موسيقى مزعجة تصدر من السماعة، تطول المعزوفة.. أمِلّ، فأنهي مكالمة لم يرد فيها الطرف الآخر الحضور ابدا. أمّا الأصابع المؤدبة، فأقرع بإحداها على جرس الباب و أنتظر أحدا ليفتح لي . أقف أمامه لأشحذ مقابلة من المدير وحين يقابلني سأتلعثم بالكلام. سيستمع إليّ فيما يشرد هو مستعيدا ذكريات سنين خلت. سيتراءى له المشهد حين كان طالبا جامعيا يدرس نهارا ويعمل ليلا ليؤمن مصاريف تحصيله العلمي. وفي الصيف يقضي وقته، وهو يذوب من الحر القائظ، يتدرب في إحدى المؤسسات أو الشركات ويحلم في يقظته بأن يصبح مديراً أو متبوءاً لمنصب ذي شأن: يدخل مكتبه صباحا فيسارع الحارس إلى فتح الباب والإنحناء له احتراما ، وأمام طاولة المكتب تقف سكريترته الحسناء تذكره بجدول المواعيد اليومي في حين يجلس هو مسترخيًا في كرسيه الجلدي الكبير، يستمع إليها من وراء صحيفة يقرؤها. كلنا نذهب بعيدا، لا حدود لأحلام أحدنا يَقِظاً...
قابلت المدير. لم تَشِ تعابير وجهه بأنه تأثر وتذكر الحكاية التقليدية، التي لطالما حكيت لنا، عن الشاب كيف يكون عصاميا. لقد طوى صفحة ماضيه الأليم بكل ما سجّل فيه من تعب وألم واهانات وتنازلات دفعها مقابل الوصول الى ما هو عليه اليوم، غارقا وراء مكتبه في كرسي يبالغُ في ضخامته عادة . لقد أاتعد في سيره عن نقطة البداية ، لقد ركض حتى تلاشت في الافق وراءه. ولبلوغ نقطة النهاية عليه أن يقيس المسافة المتبقية ، لا أن يحسب خطوات تلك التي إجتازها.فإن التفت إلى الوراء سوف يتعثَّر، أصبح يُديرُ الآن، لم يعد يُدار. خرجت من مكتبه والعرق يتصبب مني رغم البرودة التي كان يُحدثها مكيّف الهواء. تركت لدى السكرتيرة رقم هاتفٍ لم يطلبوه حتى الآن!
كي أحصل على عمل جهدتُ في البحث عن خبرة تطلب دائما. لم أنجح بالحصول على أي عمل لأنني لم أراكم خبرة. لم أقدر على المراكمة لأنني لم أعمل شيئا، ليس الأمر سيئاً لهذا الحد. فقد خَبِرتُ أن الواسطة إكسير الحياة، بها نعتاش ونقتات.
اللازمة: "معدل العلامات العالي والخبرة الجيدة هم واسطتكم". معدل علاماتي شأن يمكنني تدبره ، أمّا الواسطة فأحجية عربية لن أمتاز بأن أكون ذاك الشخص الذي سيجد حلّها . أمهاتنا لسن بكاذبات. هن بسيطات المعرفة وقليلات الخبرة بأمور أوراق الخبرة.
- آخر تحديث :
التعليقات