مطرٌ بلندنَ.. يعبر المارون ليلي، غير ملتفتين للجرح الذي خلف الجروحِ ينزُّ من خمسين عاماً. هل أقولُ تعبتُ من نوحِ الحمامِ على غصوني جردتها الطائراتُ من اخضرارِ قصيدةٍ. ماذا يقولُ الشعرُ في هذا الزمانِ. يفصّلون مقاسَهُ بالنتِّ والشيكاتِ. أو ماذا يقولُ مؤرّخُ السلطانِ بعد الكشفِ عمّا خبّأتُهُ عجيزةُ السلطان من غازٍ وأسلحةٍ مدمّرةٍ رآها الناسُ في التلفاز: حشدَ مقابرٍ ومنابرٍ.. يا حرفُ، يا نمّامُ، هل تصلُ القصيدةُ حتفَها بالكشفِ؟.. هل حتفي سيوصلني إلى معناي، يا حلاجُ!.. أين سيوفهم عني؟.. تعبتُ من البقاءِ المرِّ. ما في القلبِ من شبقٍ ومن غصصٍ سيكفيني لعمرٍ قادمٍ في جنةٍ نحنُ اخترعناها على حجم اشتهاءاتٍ محرّمةٍ. أيعني الربُّ من تفاحةٍ سقطتْ على حواءَ من عطشٍ إلى المعنى، على Newton من عللٍ إلى المبنى، لندخلَ دورتين تعاكستْ طرقاتهن إلى التضادِ.
فأين مني شارعٌ يفضي إلى ساهو،
وآخر نحو محي الدين بن عربي،
لا يتقاطعان،
ولا يتواصلان،
ولا يصلان بي
إلاّ إلى رفٍّ من الكتبِ القديمة عاث فيها العثُّ والأيامُ،
كانا ينبئان بخربةٍ...
أو غربةٍ لا تنتهي..
...............
.........
مطرٌ بلندن، لا الطريقُ تدلّني للبيتِ. لا جرسٌ يرنُّ بأخرياتِ الليلِ. لا ريحٌ تدقُّ البابَ. أين أضعتهم؟ أصحابَكَ الماضين بالكلماتِ، يفترشون أحلاماً ولا ينسون أياماً، قضيناها على ضوء الفوانيس الشحيحة. أين أبصرهم؟ بليفربول!؟ أو ديزفول!؟.. ما تركَ الرصاصُ من العتاب، من الصحاب، من انحشاري بين مظروفين، صوت أبي يؤنّبني لأني قد رسبتُ بمادة الكيمياء. ما الكيمياء؟.. هل أمشي؟ تعبتُ.
فمن؟ متى؟
سيعود بي..
.............
..........
تتمايل الأوراكُ.
كيف أراكِ؟
نهدٌ جائعٌ ودمي وراءَ نوافذِ الليلِ الطويلِ يئنُّ من دنفٍ. عتبتُ.. ولا أقولُ تعبتُ من حملِ الصليبِ. ولا أقولُ لمَنْ سأورثُ هذه الكلماتِ..
نهدٌ آخر يحتكُ بي، فأغافلُ السنواتِ نحو قصيدةٍ لمْ تكتملْ، ستضمنا في حانةٍ، جهشتْ مراياها لاوكسترا الحنين، يبثها وترٌ يتيمٌ يستثيرُ بي المسا. بين المطار لكي تطيرَ وبين سجنكَ دمعتان، من الأسى..
دارَ الزمانُ عليهما.. دار الزمانُ. فما نسيتَ وما نسى؟..
.............
.....
مطرٌ. سراعاً يعبر العشاقُ والمتسكعون فلا أرى إلا ظلالي في الطريق تساءل الحاناتِ عمن سوف تشركهُ المساءَ بكأسها وغنائها. فأرى القصيدةَ شبهَ عاتبةٍ، فأصحبها إلى فنجاني المعهودِ حتى الفجر. لا فجرٌ يطلُّ وراء قضبان العراق. فكم يطولُ الليلُ يا ليلَ العراقِ؟.. متى يعود المتعبون من المنافي والشتاتِ!؟ متى أرى أغصان دجلة يستظلُّ بفيئها العشاقُ؟.. هل يومٌ يمرُّ بلا قنابلَ، أو طغاةٍ، أو جنازيرٍ من الغرباء؟..
..........
......
هل مطرٌ بلندن؟..
هل أسيرُ لآخر المشوار؟....
- يا بغداد –
أم يوماً أعود!؟...
..............
......
مطرٌ بلندن، يغسلُ الروحَ، الشوارعَ، من سباتِ الثلجِ والصحراء: اقنوماي. لي خمسون عاماً استظلُّ بغيمةٍ أو خيمةٍ مثقوبةٍ: وطناً ومنفىً. والطريق إليهما، ذات الطريق، إلى القصيدةِ. أورثتني فقرَها وعداوة المتشاعرين. أكابدُ ما أكابدُ.. آهِ....
كان الله في عون المكابد قالها ووصالها..
قزْمٌ سيشتمني، ويحسدني (على ماذا؟)، وشعرورٌ يثرُ غبارَهُ حولي ليحجبني، وبعض مهرجٍ أعماهُ نفثُ الحقدِ لا الصهباءُ... أطفئهم، واشعلهم، بحقدهمُ وأصعدُ غير ملتفتٍ. ورائي العاطلون، ووجهتي شمس القصيدةِ. آهِ، ما أبهاك يا وطني، ويا شمسَ القصيدةِ..
ظنهم أن يحجبوك بنقعهم - يا بؤسهم - لم يعلموا سقطتْ صروح زعيمهم لمزابل التاريخ وانكشفوا. فما لضجيجهم كصفائحٍ تلهو الرياح بها..
.....
....
مطرٌ بلندنَ، أتعبتني الروحُ لا تدري ولا أدري لأيةٍ وجهةٍ تصبوا، وأصبو. استميحُ الله كيف خلقتني من رغبةٍ مجنونةٍ. لم تستشرْني كي أقررَ ما أقرر من حياةٍ سوف أحسوها على غصصٍ. وكيف تحاسبُ المغصوبَ – يا رباهُ – عما أختير. لي قلقي وشكي، كيف طافا بي. هل هما بلواي؟ أم تقواي؟ أم قدري؟. تشابكتِ الرياحُ أو النساءُ أو القصيدةُ في دمي. ودمي وضوءُ صلاتهم. كيف استباحوه وراحوا يرقصون على طبولٍ مفسّرٍ أعمى يرى بجمال مخلوقاتهِ أصلَ الغوايةِ. في موسيقى روحه رجسٌ. بخمرةِ حبّهِ أثمٌ. وراحوا يطمسون بهاءَه الأخّاذَ في حجبٍ وأدعيةٍ. وهمْ لم يحجبوا – في الكونِ – إلاّ هنَّ، إلاّ خمرة الروح التي اعتصرتْ يدُ الله الخبيرةُ، كمْ قضى ليكوّرَ الصدرَ اللجين، يسرّح الخصلَ الخضيلةَ، نافخاً من روحهِ فيها وروحي. آهِ - يا رباهُ – أجمل ما خلقتَ من التمازجِ بين هذا الليلِ، والبحرِ – القصيدةِ. هل صحيحٌ أن تسميها – أجلّكَ – عورةً.
ماذا تسمينا إذاً؟
ماذا تسمي ذلك التاريخ من عوراتنا، وحروبنا،....!؟
...............
...................
مطرٌ بلندنَ، ما الذي يأتي به مطرٌ بلندنَ، أزرق الخطوات، يمضي بي إلى حانٍ قريبٍ، أكرعُ الأيامَ كأساً تلو كأسٍ. سوف تسألني فتاةٌ شبه ساهمةٍ: لماذا الحزنُ في الشعراء – كالأشجارِ – ينمو، كلما ابتلتْ سماءٌ أو حكى نايٌ. سنقرعُ كأسنا في صحةِ التاريخ، بين تزاحم الكاساتِ والقبلاتِ - رأسَ العامِ - رأسي مثقلٌ. لم تأتْكِ الأخبارُ إلاّ بالفواجعِ. أين من عينيكِ خفق نوارسٍ عبرتْ تحيّ صبحَكِ الأندى. تنقّرُعشبَ نافذةٍ سقيناها هناكَ على ضفافِ الكرخ. آهٍ، يا ضفافَ الكرخ، يا ذاك البنفسج كيف لمْ يذبلْ. وكيف على المناضدِ عرّشت لمساتنا غاباً وكمثرى. وكيف تلوّنتْ فرشاتُك، الكلماتُ، كيف تتالتِ السنواتُ، بين الحبِّ، بين الحربِ والمنفى، وبينهما أراكِ: قصيدةً، مهموسةَ الايقاعِ.. تفترشين جدْبَ الروحِ. يا مطراً يشخبطني على الأوراق، كيف ألمني؟:- وطناً تناهبهُ الطغاةُ، أو الغزاةُ، أو الظلاميون، أو بعضُ العمائم، أو فقلْ ما شئتَ:- شعباً جائعاً وحقوله عاثتْ بها الغربانُ.. أين حبيبتي؟ علستْ أغانيها الحروبُ، فلمْ تعدْ شرفاتها مفتوحةً إلاّ لذكر الموت والترحالِ. ما فينا سيكفينا، سيكفينا بكاءٌ منذ ألفٍ فوق ناصية الفراتِ على المضرّجِ بالنبال. تعبتُ من تاريخنا، من نفطنا، من لغطنا. يكفي وهذا العصرُ، هذا العمرُ، يلهثُ دون أيِّ هناءةٍ. من ألف عامٍ، آهِ – دعبلُ – لمْ تزلْ صلباننا تتبادلُ الأدوارَ والأسبابَ. والحكامُ – فوق تخوتهم – يستورثون، يورّثون التاجَ والألقابَ. يكفينا ندورُ مع الفراغِ إلى الفراغِ. وما لنا بعد انكشافِ عجيزة السلطان إلاّ الكشف. يكفينا نسبّح باسم مولانا الولي نهارَنا ومساءَنا. يكفي يخادعُ بعضنا بعضاً بأنّا أمة التأريخ، لو بلغَ الفطامَ صبينا خرّتْ له كلُّ الجبابر والعساكر. أيها التأريخ لمْ نفهمْكَ، لمْ نقرأك إلاّ كالأناشيد المقرقعة الحروف نسدُّ فيها ثقبنَا. يكفي نغطي سوءَنا بنصوصنا. يكفينا نواجهُ عصرنَا بسياسةِ التفخيخِ والتفريخِ، أو بمتاهةِ التفسيرِ والتكفيرِ. فلتبعدْ مقصَكَ. آهِ، هل أفصحتُ!؟...
هل مطرٌ يبللني؟
أم الخيبات
...........
.........
....
مطرٌ بلندن...
.........................
........
15/1/2005 لندن
التعليقات