مقطع من رواية جاهزة للطبع
قبيل دخول بغداد، وشك بدء منع التجول، نوبة جنونها ظهرت في ضحكة مستمرة طويلة بلا سبب، كانت طوابير السيارات ممتدة طولا وعرضا حولهم على الشارع العام، هادرة مزمجرة متوثبة أو خرساء مطفأة في انتظار سنتمترات تتاح فجأة قد يخسرها حامد أو يكسبها لو نجح في دفع مقدمة سيارته قبل غيره وملأ الفراغ كأنه يفوز بجائزة نصيب.
الزحام وحده لم يكن سبب النوبة، ليست المرة الأولى حشروا مثل فلينة في مؤخرة ميت، ولا نقطة التفتيش الأمريكية المرابطة على مبعدة غير معلومة أمامهم، سلاحها هناك ساعد حتى اللحظة على إيقاف مشاعره عند حد تحولها رغبة في قتل أيا كان. لا ، ولا سحب عادم السيارات المتراكمة وسائد بنفسجية رقدت على وجوههم كاتمة أنفاسهم بلا رحمة ولا مبالاة، ولا زجاجة الباب المحرمة التي خفضتها ورفعتها ابنة أخته ثخن إصبع دقيقة ثم أخرى. عرقهم ما كان لأحدهم يمسحه تجنب تهيج العطش. أسباب عديدة على كل حال أوصلتها إلى ذلك الوضع الغريب، منها الخوف من انفجار إحدى السيارات على مقربة أو مبعدة من نقطة التفتيش حيث كانوا، ونشوب حريق بطلقة أو قنبلة مجهول بإحدى ناقلات الوقود العملاقة الملامسة تقريبا نافذتها ونافذته..
يتململ الموكب في الدور المجاور..
توقف محرك سيارته أو التي أمامه يعني توقف القلب، أو المبيت في عصيدة المعدن المتقدة حوله، حركتهم البطيئة حلم على أي حال يتسرب من احتمال مبيتهم المخيف المنتظر هنا، التوقف يعني تحول الحلم داخل الكابوس إلى كابوس باطني، كحلمها الحقيقي الذي كاد يكون كارثة على الجميع في النهاية.
لو حدث الانفجار المتوقع حرر حامد من ثقل الانتظار وقيظ المعدن والشمس، ابنة أخته لم تكن مهتمة في الظاهر بما قد يحدث، على الأقل في البداية، بعض سواق السيارات أيضا بدوا غير مهتمين، كانوا صامتين عموما وراء المقود، لا يحركون غير أعينهم، بحثا عن المسافة المرتقبة غالبا وجس نوايا مَن غادر وسار بين الطابور والآخر على هدى أو غير هدى في انتظار تحوله شظية قنبلة كبيرة بحجم نصف بغداد تجمع هناك آنذاك خالقا ذلك الزحام..
استمرت تضحك وتضحك وتهذي، تقول لخالها إذا لم تنفتح أبواب الرحمة سوف تنزع ملابسها وتخرج عارية، تكتسح نقطة التفتيش وتقود بهز مؤخرتها السيارات كلها وراءها مثل الفئران على الشوارع والجسور إلى نهر دجلة، تدفنها في مياهه وتخلصها وتتخلص من وهم وحقيقة هذا الوجود..
خالها لم يرد، ولا أمها، ظلت هي تضحك وتضحك، والسيارات تنفث سحبها الزرقاء، وتنفث، والمحركات تصيح، لا تريح ولا تستريح، عصيدة المعدن تغلي، وهم في مكانهم يُطبَخون ولا يُصَبون في طبق الساحة العامة هناك بمغرفة الطريق، لم تكن المرة الأولى يسحقون هكذا، ضحكتها غدت مخيفة بتهتكها، دمدم خالها مسيطرا على انفعاله كأنه يحفر بمثقب:
"قررنا تركها في سلام مع الحريم هناك، تضع عينها في الأقل على المزرعة، ونتخلص من رقاعتها مع جوني غيتار، لكن حضرتك شفيقة عليها، حضرتها لا تحتمل ابن عمها وجوقته ولا الحصيرة وذكريات الديرة!"
استمرت تضحك. أخيرا همهم خالها شاكرا رب العالمين على عدم اصطحاب المسدس، أعقبت أخته: "ما كان الأمريكان صادروا سلاحا شخصيا لو وجدوه معك أثناء التفتيش، هم يبحثون عن مضادات طائرات" صحح أخوها: "قصدي كنت أفرغته في رأس ابنتك الخليعة هذه."
اشتد ضحكها. دافعت أمها عنها بألم:
"ما لك لا تفهم؟ فرح تبكي، إذا ليس من هذه المصائب فبسبب غيرها، نسيتَ ما جرى لها هناك قبل أشهر، اهتم بالطريق."
"أين الطريق؟"
"يشتد الكرب يأتي الفرج."
"سدي حلقك رجاءً، نحن في الكرب منذ ولدنا وسوف نموت فيه.."
رغم حالها الصعب ودت فرح لو تخفف عن خالها، أو عن نفسها في الأقل، اقترحت ترك الشارع العام ودخول أحد الطرق الفرعية للبلدة على اليمين، الازدحام أقل هناك، والسير شمالا بسرعة حتى العودة إلى العام. رد خالها: "محتمل إيقافنا في الظلام هناك وسلب السيارة منا، أو يأخذون عليك سرة لا ينتهي حتى الصباح، أين يلقون حلوة مثلك!"
تبادلت فرح وأمها نظرة متسائلة، انتهرت الأم شقيقها على بذاءته، بدون اهتمام كلم حامد نفسه وراء المقود: "إذا كان قول الحقيقة بذاءة ما نسمي إخفاءها.. مكياج، يحيا الفن.. طز بالعلم."
أخته قالت: "مسدسي معي، ادخل الفرعي ولا تخف، ما كل مكياج فن"
التفت شقيقها لائما: "مفارز التفتيش تصادر حتى السلاح الشخصي خارج البيوت، زوجك اللواء يعرف هذا فكيف سمح لك بحمله." ردت أخته: "لا يعرف، ونحن في الطريق من بيوتنا إلى بيوتنا، لا إلى المطار أو قصر مجلس الحكم ومركز قيادتهم ليفتشونا."
تذمر أخوها: "السيارات أمام عينك لا لمزاح بل لعبور نقطة سيطرة "
ظلت هادئة: "هدفهم أشكال وألوان معينة، وإلاّ ما توقفَتْ وتحركَتْ فجأة، من يدري، ربما بلغهم الرئيس يتحرك بسيارة في هذه المنطقة ونووا القبض عليه أخيرا."
"الرئيس؟! سدي حلقك رجاءً قلت، قبل ما يسمعك واحد من سادة هذه المواكب ويقبض عليك وعليه وتخسرين مع رَجلك الجائزة."
فتحت شقيقته حقيبتها اليدوية وتأكدت من وجود المسدس وأغلقتها قائلة: "لو كان في واحدة من هذه السيارات لف رأسه بكوفيته ونزل مثل هؤلاء قدامك ومشى إلى بيت أحد مشايخ الدورة جماعته هنا فما فائدة تفتيش الأمريكان لا أفهم."
"حواجز الأسمنت على جانبي الطريق تظهر بعد قليل."
"الحيص بيص يتضاعف هناك، السيارات تقمط الواحدة الأخرى."
ظل ينحرف بالسيارة سنتمترا بعد آخر إلى اليمين، وصل فرعا داخليا، اجتاز برك المياه وأكوام الأوساخ متوقعا ضرب أحد إطاراته بمسمار في أية لحظة، فارقه الخوف قليلا على الجزء النظيف من الطريق داخل البلدة. سألت أخته إن كان أحدهم يريد شرابا أو طعاما من محلات الطريق. لم تسمع ردا. أغرت ابنتها: "طرحوا في السوق عصير مانجو لأول مرة في العراق تريدين منه؟" لم تسمع ردا، شرحت لها: "عصير من ثمرة حلوة مثل التمر لكن أكبر، ذقتِ الموز والآن دور المانجو." كانت فرح ما تزال تقاوم رغبتها في الضحك العصبي. دمدم خالها معالجا حفر الطريق مناورة بالمقود: "أرخوا الحبل لها أكثر ليزداد غرورها."
في عمق المنعطف المظلم تراكمت تحت السماء المتجهمة صناديق وأنابيب، أدوات إنشائية متنوعة، مغاسل، مراحيض، مرايا، مكيفات، أحذية، ما يخطر ولا يخطر على بال، حتى الرصيف، قالت لشقيقها: "يمكنك التوقف دقيقة وشراء لقطة منها." قال: "حرام، كلها سرقة، هذه أموال الدولة المنهوبة تعرفين فلماذا هذا الاقتراح وكنتِ من دعاتها؟"
"لحماية زوجي، والآن دولة منهارة، لا عيب في بناء الجديد بالقديم."
تابعَ: "ما أريد، علينا الوصول قبل بدء منع التجول، تفتيش الأمريكان ما زال أمامنا.."
خرجوا من المحمودية أخيرا، ما تزال المروحيتان تدوران على مقربة ومبعدة، تفرش إحداهما نور كشافها الوهاج على السيارات المتداخلة المكتظة مساحة من الطريق العام لا بداية لها ولا نهاية في موقف شاسع يخضه زلزال. تسكن إحدى الطائرتين حينا في الأعالي، تنزلق الأخرى، هنا أو هناك.
السيارات أبطأً وأوفر أدخنة وحرارة من سيل بركان..
"لو كان سعرها رخيصا تركنا السيارة" قالت أمها "ومشيا إلى البيت.." استدركت:
"حتى لو تركناها ومشينا ما وصلنا البيت قبل ظهر اليوم التالي حال لم نقتل في الطريق."
لم يفه شقيقها. سبابته على شفتيه، ينتظر السنتمتر التالي. ولا ابنتها. كانت سكتت، غشيها ذهول، بدت غريبة، لم تتململ منذ ساعة تقريبا.
"تريد أسبقك مشيا كهؤلاء لأرى ما يحدث هناك؟"
"مكانك، إذا تهتِ في الزحام لا نلتقي حتى الآخرة."
"افتح لنا الراديو حامد لنسمع ما يقول."
لم يرد أخوها. أعقبت مدمدمة: "ماذا سوف يقول غير هاجموا الأمريكان في الفلوجة وتكريت وقتلوا هذا القاضي وذاك، ثلاث ساعات مرت علينا هنا، بأنفسهم وضعوا منع التجول ولا يأبهون، بعد ثلاثة شهور راس السنة الجديدة، ربما يغادرون، هم يحبون الاحتفال في بلدهم بهذه المناسبة.."
لا أحد يرد.. شقيقها يأكل شفته.. ابنتها تأكل عقلها..
قرب الطريق سفينة كبيرة عالية محاطة بمصابيح، هناك بعيدا.. لا، بل دبابة، آلية بحجم هودج سماوي، أو مبنى من خمسة طوابق، عليها عدد من الجنود، السيارات تدب متراكمة نحوها كالنمل، من وإلى ما لا نهاية. فتحت فرح الشباك قليلا..
"خلي ابنتك تصعد الزجاجة عسى تحمينا إذا حدث انفجار قبل انفجاري."
لم تعبأ فرح. رفعتها أمها، سمعتها تهذي بصوت خافت عن ذلك الشيء الغريب مرة أخرى..
"نهاية حزيران، عام الجائحة والصريخ، مَن ينسى ذلك التأريخ.."
لم تشأ أمها إسكاتها ولا الإنصات إليها، كانت تعرف التفاصيل، في عز إحدى ظهيرات الشهر أصبحت الحرارة في الظل والشمس متقاربة، مسمار الباب يكاد يذوب، الكهرباء مقطوعة كعادتها أخيرا، تساوت بغداد القديمة بالجديدة، تحت نخلة الحديقة فرح تصب ماء السطل على رأسها وملابسها، أمها تنصحها الاقتصاد بالماء خشية ضياع حصتها ونضوب ماء البئر، ظلت فرح تترطب حتى المساء، تقطع طقوسها هذه وتدخل إلى البيت، تتمدد على البلاط، شبه عارية عند غياب أبيها، تنشف وتعود إلى الحديقة لنقع نفسها وملابسها إذا كانت عليها، هكذا فعلت أياما عديدة. وفي ليلة حمى مقمرة شاهدت من السطح العالي ما لم يره غيرها، القمر أصبح أزرق، ولأول مرة في الزمن العراقي الخائب ظهرت سحب في السماء ذلك الشهر، وردية، كانت حرائق الحرب انطفأت منذ أسابيع، خمدت وتلاشت حتى أدخنة مستنقعات النفط المضرمة بالنار، حتى القصور الرئاسية استعادت بعض الهدوء بعد استقرار السادة الجدد فيها، أمريكان وعائدون من الخارج وأشباه ملائكة وشياطين في ستر راقية وخوذ واقية، المياه عادت إلى القناة، دجلة مترع، وإذا الرؤيا تنبلج في عينيها أو على مسرح هناك، على صفحة النهر، مَن يصدق حدوث هذا في بغداد وفي ذاك الوقت الحرّان، أخبار الحرب الثالثة الأخيرة بهتت، وإذا فرح من غير فرح تهمس خبرها الرنان، عرافة عارفة كانت ذلك اليوم، انظروا، ماذا ترون هناك.. هناك على صفحة النهر الداب..
أمها قالت فيضان يكاد يطغي على بغداد، نادت فرح والدها من السطح بصوت خافت، طلبت إخراج منظاره العسكري من الدولاب، لا أحد على السطوح القريبة والبعيدة تشغله رؤيا في الغياب، معظمهم هرب أو عمي من دخان النفط وغبار وهباب، أو خاف الصعود إلى العالي من رصاص وراصدين.
صعد والدها أخيرا مسلما ما تبقى من أمره إلى السماوات، تأكدوا.. لم يكن ما كان هناك من هلوسات فرح، أو رؤيا غريبة أخرى لها، بل رؤية حميمة منهم، رؤية واضحة، فص ماس بحجم مكتبة آشور أو جبل بابل أو طوف نوح، أقسمت لخالها بعد حين، طفا على ماء النهر، في دعة وهدوء انساب، تبين أبوها أضلاعه اللامعة تبرق في ضوء القمر، تعشي البصر، زرقاء، شفافة، تصاعد منها بخار خفيف كأنه أرواح المقتولين في الحرب صاعدة إلى مهجع أخير، أيدها أبوها، مضبوط، هذه معجزة حقا، رحمة، مَن قام بها؟ أنتِ؟ رب العالَمين أو رب العالِمين، هذه قطعة جليد هائلة حقا، جبل جليد دفعة واحدة، ما هذا الكرم، من أين جاءنا.. القطب بعيد عنا ولا منفذ إليه سوى في الرأس.. في هذا الحر!.. لو أممته الدولة الغائبة كفى الأمة ماء باردا بقية الصيف!
وهنا أنشدت فرح، كيف نشيع الخبر ونروي الأماني، ونحن لا نريد كشف المعاني! رد أبوها، بل كشف مكاني يا ابنتي، لو كنا مسيحيين قلت فرح قديسة ما ركبت معزى وقامت بمعجزة، ولو كنا علمانيين اتهمنا العلم بتقصير وطالبناه بتفسير، لكن ما نحن سوى خائبين، هكذا هذر أبوها معها متابعين بالنظر قطعة الجليد الهائلة الطافية في مياه النهر تحت القمر الكذوب حتى اختفت وراء الدورة.. وتنهد وتمتم ما صدقونا حين تحدثنا عن مطر على الديرة في حزيران، فكيف لو قلنا فيه رأينا الجليد يطفو في دجلة..
فكت فرح ربطتها، ألقتها على مقعد السيارة جوارها، أمرها خالها في المرآة الأمامية بإعادتها إلى رأسها، لم تسمعه. أحد المتسولين نسي يده ممدودة إليها وراء زجاجة النافذة.
"سوف يتجمع متسولو ومجانين العراق هنا إذا لم تضع فرح ربطتها على رأسها، ابنتك تفسدها أفلام الستاليت، ألف مرة قلت لا تشتروه ولا آخذها معي بالسيارة فلماذا فعلتها ثانية، لا تعطيه شيئا وإلاّ وجدوا سببا آخر للتجمع أمامها. من أين جاء كل هؤلاء المجانين، لا ادري، ولي من هنا، رح شف لك شغل غير الكدية وهذه العبوة الفارغة تحت ابطك."
حرك السيارة سنتمترا آخر.
"قل من أين جاءت كل هذه السيارات أفهم سؤالك."
"من أين. معلوم، آلاف تدخل كل يوم من الكويت والأردن وتركية منذ رفعوا الحصار."
"السرقة والقتل مباحة كيف لا يباح الاستيراد، صرنا كراجا دوليا."
"لا تنغزي."
"ربما نبيت الليلة هنا في الشارع، هذا نغز أيضا؟"
"ما أدري، خذي المقود مني لأمشي أشوف القصة."
"مئات تراهم هائمين، لا تسمعهم يقولون غير تفتيش، خو ما عندك عيون طنطل." ومسحت بالربطة العرق المتفصد عن وجه ابنتها، الشاحب الآن، ووضعتها على كتفها.. مضروبة الفؤاد لم تبال..
فتحت فرح بابها وخرجت إلى الشريط الضيق بين صفي السيارات المتجاورة، صاح خالها: "ارجعي قبل أن تضربك سيارة أو يخطفوك."
أمها أمسكت حقيبتها اليدوية بيد ووضعت الأخرى على كتف شقيقها تهدئه: "خلها تشم بعض الهواء."
"قطران هذا، زفت، أي هواء!"
"ولو، أحسن على كل حال من سكتة قلبية."
"يعني روحها شمع عسل وأرواحنا بصل!"
"طوّل بالك، راجعة بعد دقيقة.."
فرح لم تسمع، سارت بين السيارات كأنها تسير بين سحب وغيوم كونية، طارت ربطتها عن كتفها بالعادم المتناثر حولها أدخنة بنفسجية صادرة من سعير.. "يا.. إلى أين ولت مضروبة الكبد هذه! لو تبعتُها وحركتَ السيارة أين أجدكَ؟"
"أين، قلتُ في العالم الآخر."
كادت فرح تختفي في زحام السيارات. رآها كلاهما تنزع بلوزتها عن رأسها وتلقيها بغير مبالاة. آخر ما بان منها ذراعها العارية فوق أسطح السيارات. كتفها عارية. شعرها أهوج. واختفت..
التعليقات