اشرقت الشمس وارسلت انوارها المتوهجة لتوقظ المدينة الغافية على ضفتي دجلة والفرات، متسربة الى البيوت عبر ثقوب الجدران الضيقة، معلنة لابنائها السمر صباح يوم جديد، استيقظ الاب و الام وذهبا الى الحمام للاغتسال بعد ان قبل احدهما الاخر، ثم مسحا جسميهما بزيت الزيتون ورشا عليه العطور كانت اشعة الشمس قد سبقتهما في الدخول الى الحمام فأضاءته وكشفت عن ارضه المنحدرة نحو الوسط وعن موقعه الجغرافي من البيت حيث يقع في الطرف الجنوبي منه، بعد استحمامها ذهب الاب لايقاظ ابنه،اما الأم فتوجهت الى المطبخ لأعداد الفطور، طباخها او موقد مطبخها عبارة عن منصتتتين من الطابوق تبتعد احداهما عن الأخرى نصف قدم من الاسفل ثم تقتربان حتى تكون شقا طوليا ضيقا في الأعلى ليتسنى للقدور و لأواني القلي ان يستقرا بثبات، اضرمت النار في وقود الطبخ في الفحم الذي يعبق برائحة النخيل، الى جوار الموقد رتبت الطسوت والطاسات و المناخل و الاكواب بعضها مزجج بالازرق و الابيض و الاصفر، وبعضها الاخر مازال محتفضا بلونه الترابي اضافة الى هاون من الطين المفخور او من الحجر لسحن التوابل، ورحى يدوية من الحجر لطحن الحنطة او الشعير، ناهيك عن مجموعة من السكاكين المختلفة الاحجام و هناك ثمة صناديق من الطحين النضيج لحفظ الاطعمة المختلفة من الجرذان هيأ هيأت و صبته في الاطباق ثم و ضعته علىلمائدة واطئة، كان الابن قد ساعدهما في ملء الاقداح لشرابهم من الماء ومن خمر النخيل فأجتمعت العائلة لتناول الفطور المكون من الخبز والجبن واللبن الرائب بعد ان انهوا وجبتهم الصباحية مسحوا افاههم بمناديل من الكتان ثم ذهبوا الى غسل بالماء، وقبل ان يغادر الاب والابن البيت ارتديا ملابس الخروج، لبس الاب جلبا من با من الكيان يصل الى حد الركبة له نصف ردن وشده بحزام عند صدره، وكانت حافات الجلباب مطرزة بحاشية مشرشبة تتدلى على شبشابه المنبسط ذي الكعب المطبق بعد ان شده على كاحله بسير جلدي، وكان ققد سرح شعره الكث ولحيته الطويلة المقصوصة بشكل مربع متدرج، بينما ظلت الام في البيت تغسل القدور والاواني والملابس وتكنس الغرف والفناء لتهيء بعدها وجبة الغداء وناولته زوجته ختمة وعصاه المحفورة عليه رسما لنسر ذي جناحين كبيرين، اماالابن فلبس جلبابا اصغ ر قياسه، وحمل على كتفه مايشبه الحقيبة او الجراب المصنوع من الصوف …
بعد ان اجتازا الفناء واغلقا باب الدار المصنوع من خشب النخيل، كانت الشمس الساطعة تبدو لهما قريبة من سطوح بيوت المدينة المنتشرة والموزعة الى عدد من المستطيلات، بل انها ( الشمس ) تكاد تسقط على الممرات الواسعة التي تقسح الطريق امام السابلة والمواكب والسلع للوصول الى مركز المدينة والى مختلف القطاعات التي تفرغ لديها البضائع ثم تخزن في مخازنها. توجها الى المركز والقيا تحية الصباح الممزوجة بالتقبيل على السائرين الذين اكتظت بهم شوارع المدينة، افترقا في منتصف الطريق، توجه الابن الى بيت الالواح ( المدرسة ) وقبل وصوله شاهد اناسا منهمكين بمزج الطين بقصب مهروس ثم يصبون هذا الخليط في قوالب خشبية منبسطة ليتكون منه لبنا يتركونه كيما يجف في الهواء الطلق، وبعضهم الاخر منشغل بتثبيت حزم من سيقان القصب الطويلة في الارض على مسافات منتظمة في خط مستقيم يقابله عند اي من جانبيه خطان اخران من القصب مثبتان بقوة في الارض ثم تحنى رؤوسه لتشكل ما يشبه النفق، بعدها تربط بالخط المركزي وتشد بامتداد عمود يؤلف سقف الزوريف ZORIFE أو الصريفة، وهي زريبة الحيوانات او حظيرة الماشية من الاغنام والماعز والابقار وحتى من الخنازير. اسرع الولد لئلا يتاخر فيعاقب من قبل استاذه، وحالما وصل الى بيت الالواح المتكون من حجرتين مصفوفتين بكاملهما بمصاطب ( رحلات أو مقاعد )، سأله الاستاذ :
- اين ذهبيت ايامك المبكرة يا ابن بيت الالواح ؟
فأجاب :
" ذهبت الى بيت الالواح
قرأت لوحي، أكلت غدائي
هيأت لوحي الجديد، كتبته واكملته
ولما صرف بيت الالواح ذهبت الى البيت
دخلته، كان ابي جالسا فيه
قرأت لوحي له وسر به "...
ثم يقضي نصف نهاره في هذا البيت يتعلم اللغة والكتابة والرياضيات.....
كان الاب قد وصل شارع ( لا وطاته اقدام العدو ) – وهذا هو اسم طريق الموكب في بابل – متجها الى المعبد الذي يعمل فيه كاتبا يدون النصوص الدينية فضلا عن الوثائق والرسائل التي تخص نشاطات المعبد وعلاقاته مع البلاط، وكان عليه ان يمربمكان يزدحم فيه الناس باكرا، وهاهو يقترب ليرى من بين الحشود والاماكن الصغيرة : اوعية شراب، صحون عميقة وضحلة، اقداح، حلل، اباريق،كؤوس، جرار كبيرة لخزن الطعام والماء، اخزان، توابيت على شكل خواب مربعة ذات اغطية، وعلى شكل صناديق مغلقة كليا عدا فتحة في الجزء الاعلى من الغطاء مغطاة بشرشف مزجج زينت مختلف الواحه باشكال مختلفة اكثرها للالهة : " سن/القمر، انليل/الارض، شمش/الشمس "، وبين هذه المواد رجل منهمك بعجن الطين الحري الطازج، انه صانع الفخار، واخر يساعده في العمل، وثالث في البيع...
الى جوار محل وورشة الفخاريات شاهدا اسباتا مدورة وصناديق ومقاعد مصنوعة من الحبال او القصب او من اغصان اشجار مضفورة، انها تعود الى صانع السلال، قربه ينهمك رجل بصب معدن ذائب في الجزء الاعلى من قالب على هيئة " انكي " – اله الحكمة -، ثم يلقي وزنا ثقيلا فوقه لتقوية المعدن ونشره بيسر، بعدها يصب المزيد من المعدن الذائب فوق الكتلة كيما يتم ملء الجزء الاسفل من القالب، انه صانع التماثيل، الذي يجاوره محل تزين جدرانه : حلقات واقراط واساور ودبابيس شعر وقليل من المشابك، الاقراط على شكل حلقات من عناقيد الاعناب ومن مخاريط مغطاة جزئيا برسم لرؤوس حيوانية او بشرية، اما الاساور فهي اما على شكل حلزوني مفتوح او دائرة بسيطة ذات نهايات مفتوحة او مغلقة، فاذا كانت مفتوحة فانها تحفر في صفة رسم يشبه راس حيوان،فهذا المحل لبيع المجوهرات والحلي، ويباع فيه ايضا مزهريات معدنية تصنع بطرق السطوح التي يراد ابرازها ناتيء او بحفر المعدن المسبوك بالزميل.
وهناك على جانبي ممرات السوق الضيقة والمكتضة باناس يشترون ويبيعون محلات لبيع الملابس والطعام والمنحوتات الخشبية والمعدنية والحجرية، اضافة الى محل لبيع الحلويات يصنع الكعك المقدس الذي يؤكل بكثرة في اوقات المهرجانات والاحتفالات الدينية والرسمية، كذلك هنالك محل لبيع الاغاني والقصائد المسجلة او المدونة على الواح تعرف او تطلب من مطالعها مثل " ان حبك اشبه بشذا عود الارز " و " اواه يابستاني حديقة الاماني "...
غادر السوق ووصل الى المعبد فانهمك باداء مهامه كغيره من موظفي المعبد، وما ان انتصفت شمس الظهيرة في افق المدينة الرحب حتى عاد الى البيت لتناول الغداء، وقد وجد ابنه قد سبقه في الحضور وان زوجته قد اعدت المائدة فتناولوا طعامهم ثم خلدوا الى الراحة، الى قيلولتهم اليومية، وكان قد اخبر زوجته انهم مدعوون هذا المساء لحفل زواج احد الاصدقاء المقربين، فتهيأوا بعد ان طردوا النعاس والكسل من عيونهم واجسادهم، فارتدوا اجمل ثيابهم وتعطروا بازكى طيوبهم، وخرجوا، ربط الاب باب البيت الخارجي الى صارية قريبة بحبل الصق عليه قطعة صغيرة من الطين ثم ختمها بختمه، حتى يبين له عند عودته ما اذا كان احد قد زاره في غيابهم، وصلوا الى بيت الصديق المحتشد بجمهرة المحتفلين الذين رافقه عدد منهم الى بيت اهل عروسه ليجلبها الى بيته، حاملا معه الهدايا والمأكولات، في بيت ابيها صب العطور على راسها ثم وضع حجابا على وجهها، وامام الحضور والشهود اعلن قائلا : " انها زوجتي ".... ثم اخذها والذين برفقته الى بيته ومعها ال " شركوshirku " – صداقها وجهاز عرسها وهداياها -، وقد تتلقى فيما بعد من زوجها ال " ندنوnudunnu" – عقارا لها – اضافة الى هدايا اخرى من الذهب اوالفضة او الرصاص، وحالما وصلوا بدا الاحتفال والابتهاج وتناول العشاء، حين رجعوا الى منزلهم وكان الليل قد سكب ظلامه وبرده على المدينة، اسرعوا الى اشعال موقد التدفئة المصنوع من النحاس وتحلقوا حوله يلتمسون من جمرات النخيل المتقدة الدفء هم وظلالهم التي يرسلها مصباحهم الزيتي المصنوع على شكل صحن ضحل ذي ميزاب مخروز يمر فيه الفتيل وكانه حذاء مدبب وهو رمز للاله " نسكو nusku " – اله النار -الذي يشرب زيت السمسم ليضيء المكان، فيحثهم على الكلام والحكي والالفة حتى ينعسوا ليغادروا الى وسائد انتظار الشمس وهي تزف لهم بشرى يوم اخر جديد من حياتهم................