أصابه ذعر حقيقي حينما شاهد وجهه في المرآة، وهو يغسله لإزالة تراكمات النعاس والنوم عنه. فالوجه الذي كان أمامه في المرآة، وجه رجل كهل. حط الشيب ملامحه على شعره ووجهه. مسح وجهه بالمنشفة لكنه لم يستطع إلا أن يحدق في وجهه الجديد.
أصابه الخرس هل هذا الرجل الذي يحدق إليه في المرآة هو وجهه، وجه الصبي الذي كأنه ليلة أمس حينما كان يكتب في فراشه الأرضي واجبه المدرسي؟. كم كان والده جذلا وهو يسمع ه يردد اسمه عند قراءته لكتاب (القراءة الخلدونية ):
مردان
منام مردان
ما نام مردان
وكان يرددها وهو يسجلها في دفتره الصغير، متطلعا بخبث صوب والده الذي كان يحلق ذقنه مبتسما.
فجأة وجد صبيا يدلف إلى غرفة الحمام وهو يقول له:
ـ صباح الخير يا بابا !.. ألم تنته بعد؟.. لقد تأخرت أريد غسل وجهي.
لم يسال الصبي شيئا فتصرفاته تدل على أنه ابنه، والا لما قال له (بابا)..
خرج من الحمام بخطوات ثقيلة، يحيط به الذهول من كل جانب. فوجد نفسه في ردهة تؤدي إلى غرفة كبيرة وجد في وسطها امرأة تبدو عليها البدانة.
ماالذي أتى به إلى هنا؟ أين هي بيتهم الطيني الذي كتب في غرفته الوحيدة واجبه المدرسي ليلة أمس؟
سمعت المرأة البدينة تخاطبه بود:
ـ ساعة يا عزيزي وأنت تغسل وجهك في الحمام !.. تعال وافطر قبل أن تتأخر على الدوام.
دوام ! أي دوام؟ ومن هي هذه المرأة التي أعدت له الفطور؟ هل بدأ يصاب بالجنون؟ هل انقلب كل ما في حياته إلى عالم غرائبي؟
جلس على المائدة، وضعت المرأة الفطور أمامه بمودة وألفة. انتبه إلى وجود صورة معلقة في الغرفة. صورة كبيرة تجمعه بوجهه الذي فوجيء به هذا الصباح في المرآة وهذه المرأة التي تبتسم بفرح حقيقي وهي تلبس ملابس العروس. في جانبها صورة لهما مع اثنين من الأطفال.
جلس الصبي الذي حياه في هذا الصباح الغريب على عجل، وسرعان ما قال له:
ـ بابا اعطني مائة دينار ! المعلم طلبه من الجميع دعما للمجهود الحربي.
نطق الرجل أمام ما يسمعه ويراه لأول مرة قائلا:
ـ مجهود حربي !
وفوجيء بصوته يخرج من بلعومه غليظا كصوت أي رجل، ليس فيه اثر لصوته الطفولي، الذي اعتاد أن يقرأ كتاب المطالعة بصوت عال.
قال الصبي بصوت آلي:
ـ نعم يا بابا..حربنا ضد الأمريكان.
أي صباح هذا الذي يعيشه، والذي يبدو منقطع الصلة والرحم بليلة أمس تماما. أفي ليلة واحدة ممكن أن يكبر المرء عدة سنوات دفعة واحدة، ليجد نفسه في بيت غريب تجمعه وإياه مع امرأة كل الدلائل تشير أنها زوجته وصبي يحدثه عن حرب وعن مجهود حربي؟
رفعت المرأة يديها إلى السماء وهي تدعو بصوت عال:
ـ الهي متى ترفع هذه الغمة عنا؟ ما لنا وهذه الحرب الطاحنة التي تأكل الأخضر واليابس؟
ثم التفتت إليه:
ـ لو رأيت أم عادل يوم أمس وهي تندب ابنها الذي لم يعثروا على جثته رغم مرور اسبوع على القصف.. كان منظرها لكفرت بالدنيا وبكل القيم.
وقبل أن يستجمع أفكاره ويلملم مشاعره المضطربة المشتتة في صباح هذا اليوم الغريب، سمع بوق سيارة..
قالت المرأة:
ـ ها قد حضر أبو هديل
قال وهو ينظر إلى عيني المرأة التي لا شك إنها زوجته:
ـ ومن هو أبو هديل؟ وماذا يريد؟
نظرت بعينين فاحصتين متطلعين إليه كعيني شرطي:
ـ ماذا هل أثقلت أمس في الشرب؟.. أبو هديل الذي تذهب بسيارته كل صباح إلى الدائرة !
بدون أن تنتظر منه الجواب، قامت وأحضرت له سترته. فوجيء بأنه يلبس سرواله وقميصه وربطة عنقه !.. قبلته المرأة من شفتيه قبلة قصيرة، وهي تودعه حتى الباب.
بالفعل وجد سيارة تنتظره وفيها رجل يضحك في وجهه باشا. فتح باب السيارة وجلس إلى جانب الرجل الذي يدعى أبو هديل، والذي سأله بعد أن ألقى نظرة على وجهه:
ـ مابك؟
ألفى نفسه يرد عليه قائلا:
ـ لاشيء
أشعل الرجل سيكارة ونفث دخانا كثيفا من منخاريه:
ـ يا أخي لا أدري لماذا تأخذ الأمور ببساطة؟ أعرفك منذ ربع قرن وأنت كما أنت،تراوح في مكانك.إذا كنت قلقا من تهديدات بوش الأرعن فلا تهتم فكل تهديداته جوفاء كسابقاتها.سيلقون عدة صواريخ ويرحلون كالعادة إلى أن يجدوا لأنفسهم اسطوانة جديدة.مجرد استعراض عضلات من هذا الأمريكي الأرعن فهو يبحث عن ضحية لأحداث 11 سبتمبر..حتى الحمار يعرف ذلك.
كان يتأمل فم الرجل، وهو يلقي كلماته بآلية من بين أسنانه التي اصفرت من التدخين، وكأنه إنسان آلي يردد قطعة من المحفوظات كتلك التي يلقاها الطلبة كل طالب بالتسلسل.كان الرجل يلقي يتحدث بسهولة ويسر، بنفس اليسر الذي كان يردد بها أمس قصيدة (الشجرة) في الصف يوم أمس:
انظر لتلك الشجرة
ذات الغصون النضرة
كيف نمت من حبة
وكيف صارت شجرة
انتبه إلى أن الرجل المدعو أبا هديل لا يزال يتكلم بحماسة:
ـ....سترى كيف سنكسر عظامهم ويرسلهم الحرس الجمهوري في توابيت. وكما قال السيد الرئيس حفظه الله: سيغرق بوش وزميله الأرعن بلير في فيتنام جديدة..فيتنام عراقية.
وجد نفسه يسأل الرجل المدعو أبو هديل:
ـ من هو السيد الرئيس ومن هو بوش والآخر الذي ذكرت اسمه؟
أطلق الرجل ضحكة مجلجلة ساخرا بمرح:
ـ خوش نكتة. يبدو انك أثقلت أمس في الشرب يوم أمس كعادتك، وبدأت تحاول مسح هذه الأسماء من ذاكرتك.
على امتداد الطريق وبين كل شارع وحي،كان يرى صورة ضخمة لنفس الرجل في أوضاع مختلفة تارة يحمل سيفا وتارة أخرى يمسك ببندقية أو يرفع يده تحية لشيء مجهول أو يجلس على ظهر حصان أبيض.
تأفف الرجل الذي بجانبه وهو ينفث دخانا كثيفا من منخاريه:
ـ البارحة كانت لدي خفارة. أتدري أين؟..أمام أحد تماثيل السيد الرئيس.طللت أحوم في البرد القارس حول التمثال حتى الصباح خشية أن يكتب عليه أحد الخونة عبارات غير لائقة.لقد تلقينا أوامر مشددة من قيادة الحزب بضرورة حماية تماثيل السيد الرئيس من عبث الخونة.
ـ هل كان الجو البارحة باردا إلى هذا الحد؟
نظر إليه الرجل باستغراب وهو يقول:
ـ ماذا بك؟ الاترى كيف أن الأمطار تهطل حتى الآن؟!
في الطريق الى الجهة المجهولة التي كانت السيارة تتجه إليها،شاهد سيارات عسكرية وعسكريون وأناس يلبسون بدلات خضراء.
فوجيء بالرجل يقول له:
ـ في داخلي يقين أن معركة (الحواسم) ستكون حاسمة ونهائية لرفع الحصار الضاري عن بلادنا.
كان عاجزا أن يجد كلمة مناسبة ليرد بها على ما يتحدث به الرجل من الغاز وألفاظ لم يألفها.
وأخيرا وقفت السيارة أمام مبنى مكتوب عليه (مديرية الطابو والعقارات). تبع الرجل إلى نفس الغرفة التي اندفع إليها. كانت غرفة متواضعة فيها عدة مكاتب وفوق كل مكتب اسم شخص.
استغرب حينما وجد اسمه موضوعا على احد المكاتب.إذن عليه أن يجلس على هذا المكتب. كانت ثمة مراجعين يحملون ملفات وأوراق معهم.
اقترب منه الرجل الذي قاده إلى هنا بسيارته وهو يحاول أن يتحدث بصوت خفيض:
ـ سأذهب الى المدير لأحمل إليه هذه الاضبارة..يبدو عليك الإرهاق الشديد. يبدو أن الشرب الذي تفرط في تناوله أرهق قواك. سأعلم المدير انك مريض.
أحس بالوحدة. ورأى الشمس وهي تجاهد من الانعتاق من قبضة غيوم كثيفة.
ألقى نظرة على الغرفة. كان فيها صورة كبيرة لنفس الرجل الذي قال أبو هديل أنه حرس تمثاله ليلة أمس حتى الصباح.
حضر إلى الغرفة رجل بدين، يشبه مدير مدرسته التي كان يدوام فيها كل صباح قبل هذا اليوم الغرائبي.
تفقدت عينا الرجل الموظفين في مكاتبهم. وبعين خبيرة، توقفت عيناه عنده.رآه يقترب منه ويحدثه بصوت ودود لا يناسب مظهره الذي يوحي بالحزم القسوة:
ـ خيرا؟.. يبدو عليك الإرهاق والتعب. هل تحس بسوء؟
وجد نفسه يهتف في وجه الرجل الودود:
ـ إنني فعلا مريض..مريض جدا يا أستاذ.
نظر إليه المدير بإشفاق:
ـ ولماذا حضرت للدوام يا أبا سومر؟ أنت عزيز عندنا ومن أكفء موظفينا. اذهب واسترح في بيتك اليوم كي تعودا لنا غدا بكامل حيويتك.
خرج المدير من الغرفة، بينما بدأ القابعون على مكاتبهم ينظرون إليه بحسد. سأله أحدهم:
ـ لماذا لا تذهب؟
لم يكن يستطيع الذهاب لأنه لا يستطيع الاهتداء إلى المنزل الذي خرج منه صباح هذا اليوم. الصباح الذي ودعته فيه امرأة قبلته من شفتيه قبلة باردة. وكأنها واجب عليها الإيفاء به رغما عنها.
جاءه الفرج من احد الموظفين الذي قال له:
ـ لقد حصلت على إجازة زمنية وسوف أخرج الآن. إذا أحببت سأوصلك في طريقي إلى البيت.
وجد نفسه هذه المرة مع رجل آخر وفي سيارة أخرى.
فتح الرجل الجديد الراديو الذي انطلق منه نشيد لم يسمعه قط " غالي غالي..صدام غالي ".
أغلق الرجل الراديو بسخط مرددا:
ـ هو وحده الغالي، ونحن وأرواحنا إلى جهنم وبئس المصير. هو الغالي ونحن وأرواحنا في رخص التراب. لكن إن شاء الله سنرى هذه المرة نهايته.. بوش يبدو هذه المرة عازما على تخليصنا من شره.
كان يتابع الرجل الذي يغلي كالمرجل بصمت.
ـ لقد تحولنا إلى شحاذين بفضل (القائد الضرورة) الذي قتل أقرب رفاقه.لكنه كان رحيما بأحمد حسن البكر الذي قتله بالسم، ولم يعدمه كالآخرين.حارب إيران ثمان سنوات، ولم تكفيه ملايين الضحايا فاحتل الكويت.. وأغرق العراق في حصار قصم ظهر الجميع، وتحولنا بفضله إلى شعب لا هم له إلا البحث عن الخبز.. والله العظيم كان عبدالرحمن عارف أفضل منه ألف مرة على الأقل أنه كان مسالما ولم يؤذ أحدا طوال حكمه..لكن شعبنا يستحق ما يجري له لأنه قيم تواضع هذا الرجل على أنه ضعف.. حتى عبدالسلام عارف الذي احترق في الطائرة أفضل منه.. آه ليت عبدالكريم قاسم قضى عليه في وقته..لكننا قابلنا نزاهة قاسم بالتآمر عليه وقتله أمام كاميرات التلفزيون..كما قتل هو من قبل غيلة الملك والوصي والعائلة المالكة.
كل الأسماء التي كان يرددها الرجل غريبة على سمعه، ماعدا اسم الملك،الذي كان يردد اسمه كل صباح في باحة المدرسة.
فوجيء بالرجل يبصق صوب تمثال الرجل الذي يتنشر في كل مكان:
ـ تفو..صدام حسين أفندي..لقد بات اليوم الذي سيبصقون فيه على صورك وتماثيلك وجدارياتك قريبة.
علم أن اسم صاحب التمثال التي تملأ صوره كل مكان هو صدام حسين. اسم لم يسمع به قط مثل بقية الأسماء التي عددها الرجل.
فجأة انتبه إلى اصطدام السيارة التي يقودها الرجل بحافلة. صرخ بقوة وفزع، أحس بعده بظلام شديد يطبق على عينيه.
******
وجد نفسه في الغرفة يتصبب عرقا،وهو يردد كمن تأكله حمى مجهولة:
ـ عبدالكريم قاسم سيقتل الملك، عبدالسلام سيقتل عبدالكريم، عبدالسلام سيموت محترقا في طائرة، أحمد حسن البكر سيرغم عبدالرحمن عارف على الخروج من العراق، صدام سيسمم البكر ليموت ببطء، صدام سيحكم العراق ويخوض حروبا وسيدمر العراق، وبوش...
فجأة نزل صوت أمه بردا وسلاما على قلبه:
ـ هيا يا عزيزي..لقد تأخرت على المدرسة.
فتح عينيه. كان ثمة نهار رائق يتسرب إلى الغرفة من نافذة الغرفة.كان لا يزال مذهولا، يراوح بين الواقع والخيال بين يومه الغرائبي الذي عاشه قبل قليل، وبين صوت أمه وهي تعيده إلى طفولته. غسل وجهه وهو يقول:
ـ ماما..ان رجلا يدعى عبدالكريم قاسم سيقتل الملك، وقاسم سيقتله عارف، وعارف سيحترق في طائرة، وسيطرد شقيقه عبدالرحمن رجل اسمه احمد حسن البكر من قصره ومن العراق، وسيسمم رجل اسمه صدام البكر، وصدام سيقود العراق إلى الخراب وبوش...
جففت أمه وجهه بالمنشفة وهي تقول له:
ـ ما هذا الهراء يا ولدي؟وما هذه الأسماء الغريبة التي ترددها؟
ـ لقد سمعتها ليلة أمس في حلم رهيب.
قالت له أمه:
ـ انه مجرد كابوس.
انطلق بعد دقائق إلى مدرسته.نسي حلمه تماما وهو يقف بين زملائه في المدرسة ليردد معهم في ساحتها النشيد الصباحي:
موطني... موطني
الجلال والبهاء والسناء والبهاء في رباك
والحياة والنجاة والهناء والرجاء في هواك
هل أراك سالما منعماوغانما مكرما
موطني.. موطني
جنيف
التعليقات