عندما تناه إلى سمع إدوارد اقتراحاً هامساً بين ابنته جلاديس والطبيب والباحثة الاجتماعية، تطور فيما بعد إلى ما يشبه القرار بنقل أديلايد إلى بيت التمريض، أعلن اعتراضه وقرر أنه لن يوافق أبداً على إبعاد زوجته، صديقته الغالية عنه، وعلى إرسالها وحيدة ضعيفة "إلى بيت العجزة" بعد زواج "لا يشتكي من شيء" عمره أكثر من ستين سنة. من يومها اضطرب ليله وأظلم نهاره.
" لن يفرق بيننا إلا الموت" قالها في السر وصرّح بها في العلن، يعتصر روحه وحباله الصوتية قبضة حزن شديد وحب آثر. ثم أكد أنه لن يسمح حتى للموت، بكل طغيانه وجبروته أن يفرق بينهما! فيما بعد، أثبت أنه كان يعني كل حرف نطق وكل كلمة قال.
كان إدوارد وأديلايد بارسونز قد تركا بيتهما المستقل، وانتقلا، استجابة لإلحاح ابنتهما الوحيدة جلاديس وزوجها مارك، لشغل الطابق الأرضي في فيلتهما الكبيرة، الذي فُرش ورُتب أقرب ما يكون إلى المنزل الذي عاشا فيه سنواتهما الطويلة السعيدة. إلى غرفة النوم نقلا سريرهما القديم وخزانتهما المشتركة، ومنضدة جانبية ازدحمت، كما كانت دائماً، بأطباق الزينة من مختلف الأعمار والمناسبات، وبإطارات صور كثيرة تمثل جلاديس طفلة وشابة، برفقة والديها، وبرفقة مارك، وصور أخرى لإدوارد وأديلايد. وأعدت الغرفة الثانية للجلوس ومشاهدة التلفزيون. وفيها، قرب النافذة العريضة، وضع السيد بارسونز مكتبه الخشبي ذو الأدراج الأربعة التي يقفلها ويفتحها مفتاح واحد. ونظراً لحالة الأم التي تدهورت مؤخراً، فقد أصبح الأب حريصاً على قفل الأدراج والتأكد من وجود المفتاح دائما في جيبه.
في طريقها مع مارك إلى المدينة، نزلت جلاديس تطمئن على حال والديها، أو ولديها لا فرق، فزواجها لم يسفر عن أي حمل أو ولادة..
" سنتأخر الليلة فلا تنتظرانا". أعادت كلماتها أكثر من مرة إلى أن التقطتها أذنا الأب بوضوح، وأضافت، " في الصباح سنفطر معاً، إنه يوم الأحد من جديد".
" أتمنى لك ولمارك وقتاً طيباً"، قال الأب. أما الأم فقد صرخت من الغرفة الأخرى:
" انتبهي إلى نفسك أيتها الفتاة الطائشة، وحاذري التكلم مع الغرباء! هل أنهيت دروسك؟ أطفئي الضوء إذن وإلى الفراش!"
طبعت جلاديس قبلة على جبين والدها وخرجت. تابعت الأم:
" جلاد، إذا حضرت ولم تجديني، سأكون في زيارة أمي، لعنة الله عليها وعليك…".
" دعيهما يتمتعان بشبابهما"، قال الأب بطيبة.
شعرت جلاديس بانقباض شديد، كادت خطواتها تخذلها، أوشكت أن تنصاع لرغبة مفاجئة في البقاء في البيت، التفتت لتكلّم مارك، اكتشفت أنه سبقها إلى السيارة، ولاحظت أن المطر بدأ يتساقط.
دخل إدوارد بشعره الأبيض الكث إلى المطبخ وانشغل بإعداد فنجان من الشاي يرضي به أديلايد ويهدئ ثورتها. طارده صوتها:
" أين هذا المشروب اللعين؟ إني وحيدة في الصحراء يقتلني العطش، أسرع لا تضع فيه سماً ولا سحراً، أحضره إليّ واذهب إلى الرقص ومطاردة النساء، إنك أسوأ منها"
كاد الرجل يضحك، وكاد في اللحظة نفسها يبكي.." لو تعرف كم أحبها، آه لو تعرف" تلكأت الكلمات في حنجرته وضغطت عليها بألم غريب، ثم عاد إلى صمته وإلى ما كان فيه. حقاً لقد أمضى في المطبخ أطول بكثير مما يلزم، لكنه لم يكن يحضّر الشاي فقط، كان يراجع خطة، بدأ منذ أكثر من أسبوعين، ينسج خيوطها من نار حبه وألمه.
انهمر المطر غزيراً في الخارج، ولمعت السماء وبرقت وراء النافذة، ثم دوى صوت رعد شديد. حمل الرجل بيدين ضعيفتين صينية الشاي بعد أن تأكد من كل ما عليها، الحليب والسكر والملعقة الصغيرة والفنجان الذي تفضله أديلايد، وقطعة من الكيك.
كانت أديلايد متربعة على السرير، مأخوذة باللعب بالأحذية، تدعو كلاً منها باسم خاص، ثم تقبله وترش عليه ما يفضله من البودرة أو الأفترشيف. نظرت الطفلة العجوز، شعثة الشعر، فزعة ناحية الباب الذي دخل منه زوجها، وسالت باستغراب صادق:
" هل أنت هنا يا صديقي؟ ظننتك مسافراً، لو أخبرتني مسيقاً لتزينت وأعددت العشاء، لكني كما ترى مشغولة بالضيوف، عد غداً لو تريد!"
وضع ( الصديق) الصينية بتأن على كرسي قريب وجلس في كرسيه المعتاد. خيل إليه أنه وصل لتوه من السفر، وأن أديلايد الفاتنة قامت تعانقه بشوق وتسأله عن رحلته، لكنها لم تتحرك كانت تهتم بالضيوف! تحرك هو، انهمك في تخليص الأحذية من بين يديها وإعادتها إلى رفوفها قرب الخزانة.
دوى صوت الرعد، تدافع انهمار المطر، وغرق إدوارد في بحر من الحزن لا قرار له. اقترب من النافذة شدّ طرفي الستارة وأحكم إغلاقها، تنبه إلى زوجته تسأل:
" ماذا يفعلون بحق الشيطان؟ ماذا يحفرون؟ يالهم من مجانين، إنهم مثلك!" ثم ضحكت وأكملت:
"أراهن أنهم يقتلعون الأشجار ثم يعيدون زرعها، أوراقها في الأرض وجذورها في الهواء، ألا يتعبون؟"
لسبب ما تذكر إدوارد الحريق الذي أضرمته أديلايد في ستارة غرفة الجلوس منذ يومين، وتابع يحرك السكر في فنجان الشاي ناظراً إلى عيني حبيبته الزرقاوين الخائفتين، وسرح بعيداً. طويت في لحظة سنوات طويلة، وضاعت من وجهها خطوط ومحطات لا حدود لها. عادت شقراء فاتنة، تزين شعرها قرنفلة حمراء كانت تعرف دائماً كيف تثبتها في مكانها في كل الظروف والأحوال، واستمر يحرك السكر! فجأة ألح عليه سؤال محدد: هل ينفذ الليلة ما عزم عليه؟ وعاجله سؤال آخر هل يقوى على التنفيذ؟
تنبه إلى فردة حذاء مقلوبة قرب السرير، قام إليها بتكاسل، التقطها ووضعها قرب الأحذية الأخرى وعاد ساهماً يفكر، متابعا التحريك بملعقة في يده كانت في الحقيقة تدور في الهواء! همّ بالجلوس على كرسيه المعتاد لكنه توقف، كانت أديلايد قد سبقته وقفزت إليه، عقدت ذراعيها فوق صدرها وصرخت بنزق:
" أيها الرجل الغريب اجلس عند قدمي، هل تحسن قراءة الطالع؟ ابدأ فورا وإلا غرقت في البحر! نحن الآن في استنبول، اقرأ لي حظي وإن كان كما أحب، فلك قطعة نقدية وقبلة"، لوحت بكفها اليمنى، مدتها إليه وأكملت " لكن قل لي أولاً من أرسلك لتتجسس علي؟ قل من غير تأخير وإلا ناديت الشرطة".
" أنا إدوارد يا حبيبتي، خادمك وزوجك. لا تخافي لن أتركك". ووضع يده بهدوء على كتفها، ثم تناول شالاً صوفياً رقيقاً ورتبه بكثير من الحب والحدب بحيث يغطي كتفيها ورقبتها، وسألها باهتمام صادق:
" هل ترغبين في شيء آخر تشربينه؟ تذوقي شيئاً من الكيك الذي صنعته جلاد"
" أعرف أنك تريد التخلص مني، لن أقبل شيئاً منك بعد اليوم. سأشتري حاجتي من المطعم".
غرق إدوارد في لجة أفكاره. تحسس في جيبه مفتاح أدراج المكتب، رنا بحسرة إلى زوجته الغالية، رآها هادئة فاتنة لا علاقة لها بالمرأة الغاضبة الجالسة في مقعده، " ما أقبح المرض وما أشد ظلم السنين!" أين اختفت تلك الصديقة التي عشق وتزوج والتي حملت وأنجبت جلاديس؟ التي طاف معها العالم، واكتشف أنها الأحب والأجمل! الزوجة الصديقة التي ما من مرة تركها، إلا عاد إليها مشتاقا كما يشتاق الطفل إلى أمه وألعابه.
" هل تأوين إلى السرير يا غاليتي؟ لقد وضعت فيه كيس الماء الساخن منذ ساعة ويزيد. لا بد أنه دافئ الآن. الليلة باردة جداً. ماذا تقولين؟"
ساعد إدوارد زوجته في الانتقال إلى السرير وسوّى فوقها الأغطية بحنو وإتقان، ووقف دقيقة ينظر إليها، لن يأخذها منه أحد، لن يبعدها عنه إنسان. سيذهبان معاً إلى أبعد أو أقرب مكان فوق الأرض أو تحتها. نامت أديلايد مثل طفل متعب، واشتد لمع البرق وقصف الرعود.
انتقل إدوارد بخفة إلى غرفة الجلوس، أدار المفتاح في قفل المكتب بحذر لا لزوم له. أخرج من الدرج الأعلى مسدساً كان يحتفظ به منذ وقت طويل. فحصه بانفعال وارتباك، كان في المسدس خمس طلقات. "إنها تكفي" همس صوت في داخله وسمع رجع الصوت، "بل تكفي وتزيد". عاد متعثراً إلى غرفة النوم، وأغلق الباب.
وقف على بعد متر واحد من السرير، وصوّب الفتحة القاتلة إلى رأس العروس النائمة. رآها ترفل في فستان أبيض يعلو جبينها العريض تاج رائع من زهور بيضاء وبنفسجية...كان هو في حلته العسكرية الرسمية، ترصّع صدره ميداليات شجاعة وتقدير، حوله تجمع زملاؤه وأقرباؤه..نساء ورجال.. كلهم فرح الوجه والقلب واللسان.
" هل تتزوجها في الصحة والمرض، في الغنى والفقر، للأحسن والأسوأ..؟" ترددت كلمات الكاهن في الغرفة الصغيرة ورجع صداها المهيب بين أرجاء الكنيسة التي شهدت عقد القران. شلّته للحظة الكلمات البطيئة الجادة، وتمسكت به وحاصرته الأسئلة المتتابعة. تنبه إلى أنه كان يحمل المسدس باليد التي حمل بها خاتم الزواج، الذي وافق به على كل الأسئلة. داهمته فجأة خاطرة طارئة، هل يضعف ويترك المسدس؟ … تراءت له قبضته ترتخي وتتخلص بجبن من آلة الموت، لكنه لم يفعل!
دهم صدره ضيق خانق، أمر يده بالبحث عن زجاجة أقراص صغيرة لتلقي واحداً منها تحت لسانه، تمردت اليد ولم تتحرك، ومثلها بقيت كفه الأخرى جامدة بدل أن تتناول بخاخ (الفينتولين) وتنفث منه ما يعيد إلى صدره بعض الأنفاس! تحامل على نفسه، أهمل حاجته الملحة للدواء، أبقى المسدس في يده، شدّد قبضته عليه… قوة خفية شافية، أو لينزف من فوهته آخر قطرات الحياة.
تربصت به موجة أخرى من التردد، عادته من جديد خاطرة التراجع " قبل فوات الأوان". ، خرّ إلى الأرض راكعاً أمام الكاهن الطيب، يلثم قدميه ويطلب السماح والغفران، لكنه بقي جامداً! ثم فجأة في دقيقة لا علاقة لها بدقيقة تخاذل سبقتها، قام واقفاً صلباً على قدميه، من غير أن يأتي بحركة!
… وغرس الخاتم في إصبع العروس من غير تردد. " للزوج أن يقبّل زوجته" أعلن الكاهن بانتصار..احمر وجها العروسين وبارتباك شديد قرب الزوج شفتيه من وجنة الزوجة. من غير تردد أيضاً، بيدين مرتجفتين، لا يعرف إدوارد كيف تمكن من تثبيتهما، أطلق العريس الشيخ رصاصته الأولى على رأس العروس الغافية، ثم (قبّلها) برصاصة ثانية.
بهدوء شديد، خشية إزعاج النائمة الغالية أو تنبيهها، ألقى إدوارد على وجه عروسه فوطة صغيرة من غير أن ينظر إليه. ثم صعد إلى السرير بصعوبة بالغة وتمدد قربها. كانت شفتاه ترتعشتان بكل صلاة عرفها وكل دعاء تذكر. كان قلبه يخفق بسرعة مخيفة في كل قطعة من جسمه، ويطعن رأسه ورقبته ويدق أضلاعه، كما يطعن ويدق جدران الغرفة وسقفها. وكان صدره ينسحق ويتقطع عطشاً إلى شيء من هواء، ووجهه غارقاً في العرق والدموع، مع ذلك تماسك ليكمل ما بدأ. التصق بزوجته الحبيبة وأحس بدفء دمها على كتفه وجانبه، وللمرة الأخيرة " أصبحا كلاهما جسداً واحداً!" ثم بيد منهكة تقلّصت على قبضة المسدس، أطلق رصاصة باتجاه رأسه، وأتبعها بما تبقى من طلقات. في الخارج دوى صوت رعد شديد واستمر صاخباً هطول المطر.
*
نزلت جلاديس تتفقد أهل الجناح الأرضي وتدعوهما إلى فطور الصباح. كان باب غرفة الجلوس مغلقاً على غير العادة. دخلت، نظرت إلى الستارة التي احترق جزء منها، " لابد من بعض التجديد والإصلاح في هذه الغرفة"، قررت إرجاء الأمر إلى ما بعد انتقال أمها إلى بيت التمريض. نقرت على باب غرفة النوم وانتظرت قليلاً، لم تسمع صوتاً. فتحت الباب بتمهل ودخلت. كانت أمها جثة هامدة تسبح في حمام من الدم، وكان الأب يتنفس بصعوبة بالغة، سقطت جلاديس مغمى عليها.
*
" لقد قتلتها وقتلت نفسي، ماذا أفعل هنا؟" كان إدوارد يقول ذلك ويكرره من غير انقطاع، ويعيد من غير توقف، " لقد قتلتها وقتلت نفسي، لماذا أنا لست معها؟"
هذا ما قاله لضابط الشرطة، وللطبيب في المستشفى، وهذا ما أعاده أيضاً في جلسات المحكمة، وزاد عليه بمنتهى الصدق والبراءة " ليس عندي ما أضيف". ولم يطلب منه أحد أية إضافات واكتفى المحقق والادعاء بما قال.
في جلسة المحكمة النهائية، كانت جلاديس ومارك في مكانيهما المعتادين في الصف الأول في القاعة الكبيرة، كانت يدها باردة شاحبة تعتصر كل ما في يد زوجها وقلبه من قوة وصبر. وكانت بقية المقاعد مشغولة بمن تعرفهم ومن لا تعرفهم، لكنها لم ترَ منهم أحداً!
كانت نظراتها هائمة ضائعة تحاول التركز على وجه الشيخ الصامت المبلل بالدمع، فتراه حيناً قد كبر دهراً في شهرين، وحيناً يغيب في ضباب كثيف ليأخذ مكانه وجه آخر، وجه، أمها وصديقتها، و(ابنتها) المدللة. وكانت أذناها منذ دخل القاضي وبدأت الجلسة مشحوذتين مشرعتين لالتقاط الحكم قبل أن يجري به قلم أو ينطق به لسان.
أما إدوارد فكان في دنيا أخرى. كان وحيداً صامتاً، يرتدي بزة داكنة بدت مترهلة عليه وقميصاً رمادياً من غير رباط عنق، على عكس عادته في المناسبات الهامة، كان يصغي إلى ما يجري مطرق الرأس، لكنه بالتأكيد لم يكن يسمع شيئاً.
بعد ساعات مضنية لا يعرف طولها ومرارتها الحقيقية إلا من كانت جالسةً في مقعد في الصف الأول تغرس أظافرها في راحة مارك، وتعض بقوة على شفتيها، تكلم القاضي متمهلاً ومستفيضاً. ثم لخّص حيثيات القضية المؤسفة التي شغلت الناس لمدة غير قصيرة.
وعندما نطق بالحكم أخيراً، جاء حكمه بمنتهى العدل والإنصاف، لكن جلاديس ثارت وبكت ولم تثق بما سمعت، ولم يكن أقرب إليها من مارك تطلب منه بصوت مختنق، إعادة ما قيل، فالفرق الهائل بين "مذنب" و"غير مذنب" كلمة صغيرة مكونة من ثلاثة أحرف ليس أكثر!
التعليقات