في لغتنا النوبية كسائر اللغات التطابق والتجانس والمرادف والتضاد.. وكنت فيما سبق تناولت دلالات بعض المفردات النوبية. وبما أنني نوبي الأصل والمنشأ واللسان احن دوما إلى مفردات لغتنا النوبية وأتناولها بين الحين والآخر. وقد سئم بعض المتابعين من كثرة تناولي لها في (الرايحة والجاية ) حيث يصلني دوما الانتقادات والاتهامات بما يؤكد ضعف لغتي العربية، حيث أؤنث أو اذّكر في غير موضعه كدأب أهلي اللذين لا تعرف لغتهم تلك التفرقة.
فالنوبيون أول من لا يفرقون أو ينقصون الأنثيات حقوقهن. ويتم مخاطبتهن كالذكور دون إنقاص أو تفرقة (جاء دهب.. وجاء دهيبه ). كما إن الأنانية لا تعرف طريقها بين النوبيين فهم يجمعون في مخاطبة ما زاد عن الفرد ولو بواحدة.لان روح التعايش الجماعي هي سمة النوبيين في تعاملاتهم، ولا يجعلون للتثنية أداة حيث يقولون (أكل الرجل.....والرجال أكلوا.. وكذا أيضا.. الرجلين أكلوا )
و لنا في غياب مفردات تحمل معاني الاتساخ دلالة واضحة على نظافة النوبيين في مسلكهم الاجتماعي، حيث لا تعرف الوساخة والاتساخ طريقها للنوبية والنوبيين. فاصل الشيء لديهم هي النظافة المفرطة و المقرونة بدلالات تعني الجديد أو البكر..( عكس القديم أو البالي ) لأنه من الطبيعي غياب مفردة مطلقة تعني النظافة!! وذلك لغياب الضد ( الوساخة والاتساخ ). لذا يستعيض النوبي الذي لا يعرف قاموسه الوساخة بدلالات تفيد معنى النظافة والتنظيف.. بالتجديد أو الغسيل آو الترميم. كل ذلك لإصلاح ما يفسده غيرهم..أو الدهر..!!
ولهم في أدب توصيل معنى مفردات النظافة ودلالاتها حكمة وبلاغة، ونهج اتبعه البسطاء منهم ليرسموا بذلك الطريق للجهات ذات العلاقة. حيث يحضرني قصة ذاك النوبي الشهم الحكيم الذي امتهن مهنة بسيطة (سائق ) واختار للممارسة تلك المهنة جهة تعتني بالنظافة، ولم يتردد مطلقا في أن يتسلم سيارة (بلدية) تجوب الإحياء والشوارع لتجمع القمامة من مساكن الحي. وكان أطفال الحي قد ألفوا واعتادوا منظر تلك السيارة والعاملين عليها وهي تجوب الشوارع،وتصل إلى ديارهم لتحمل القمامة والأوساخ، وهم يطلقون عليهم مجازا ( ناس الزبالة ) و يهرعون عند وصولهم لإخبار ذويهم بوصول عربة الزبالة. فيصيحون بأعلى صوتهم quot; ناس الزبالة وصلوا...عربية الزبالة جات.quot; فكان لذاك الشهم الذي لا تعرف مفردات لغته الوساخة والاتساخ كان له أن يهادن الأطفال بالود، ويجالسهم بتحنان الأب، ويدعمه في ذلك هيبته الرزينة، فيحاورهم بكل هدوء. ويستدرجهم حتى يستدركوا مصدر الزبالة، فهي خارجة من بيوتهم..!! وبالمقابل هنالك أفراد مكلفون ( طوعا أو كرها ) بإبعاد تلك الزبالة والأوساخ عنهم وعن ديارهم. فلولا تواجدهم المتكرر لما وصلت النظافة ولا عرفت طريقها إلى بيوتهم.
وبعد تلك المحاضرة الشيقة المتزنة يتقن الأطفال انه لا يجوز مطلقا الإساءة لمن يحسن إليهم، وينتشل من دورهم براثن العفن. وأصبحوا من بعد ذلك يطلقون عليهم اسما جديدا.. وصيحاتهم تبدلت إلى (ناس النظافة وصلوا )..

محمد سليمان أحمد
وليــاب
[email protected]