(1)

مايجري في لبنان وماقام به تحديداً حزب الله من انقلاب مسلح على الدولة اللبنانية يضعنا في عمق المأزق الذي يعيشه لبنان ومافيه من عدم ثقة وازدواجية وتناقض تنتج هذا الكم المخيف من العنف والفوضى بتواتر دوري من وقت لآخر، ويضع مفهوم الوطنية برمته ومعه إطاره الحقوقي أي الدولة موضع تساؤل ونقد وخاصةً في شرق عربي ومنه لبنان لم يفلح في إنتاج الدولة الوطنية بعد، أو لم يفلح في إنتاج شكل سياسي عصري تعايشي سلمي يعكس وجود الدولة الوطنية، فبعد أن اغتالت الانقلابات العسكرية فكرة الدولة الوطنية، تبعتها الميليشيات السياسية الطائفية والمذهبية لتجهض على ماتبقى من صور الدولة الوطنية وعلاقاتها، وفرضت بقوة quot;السلاح المقدس quot; علاقات وصيغ غير مقدسة وغير أخلاقية وذاتية مغرقة في عصبيتها وفجورها، وبات لبنان اليوم مثلاً صارخاً لها يلخص كل تناقضاتها وعمق مأزقها، وعلى أرضه وإنسانه واستقراره تجرى كافة التجارب المحرمة وطنياً وسياسياً، أنتجت بمحصلتها هذه الدوامة المستمرة من الاحتلالات والحروب الأهلية وفوضى السلاح وعدم الشرعية ونزعة عرض القوة والخراب الذي يعيشه لبنان، بتكثيف القول ومباشرته،لبنان بعد انقلاب حزب الله الأخيرعلى الشرعية وعلى الدولة هو في مرحلة جديدة خطيرة بكل ماتعنيه الكلمة من دلالات، وعلى الجميع التوقف بجدية ومسؤولية وصراحة للبحث عن المخرج والخيارالذي ينحصر ضمن محددات الحالة الراهنة بخيارين اثنين لاثالث لهما:

الأول خيار الدولة الوطنية الغائب،والثاني خيار اللادولة الحاضر، وهوأي الثاني طغى على الحياة العامة في لبنان والمنطقة بأسماء شتى ولافتات متعددة، يكثفه بشكله الدرامي مايعيشه لبنان اليوم من صراعات دخلت أخطر أطوارها،،وبكل أسف هو خيار العنف والتطرف والغوغائية والطغيان والمذهبية والاقصاء والاستبداد بكافة أشكاله وتموضعاته ودرجاته وعباآته التي يختفي وراءها، وزاده تعقيداً واضطراباً وتشويهاً دخول عقلية ولاية الفقيه العسكرية الإيرانية عليه، وزادت طينه بله وعلله علة، وأحدث خللاً كبيراً في موازين القوى المادية على الأرض، وشرخاً واسعاً في المؤسسة السياسية اللبنانية وتباعداً وافتراقاً لاتحمد عقباه بين الأطراف اللبنانية التي تتباين اصطفافاتها الطائفية والمذهبية والسياسية، التي لم تهتدي وتحتكم إلى صيغ الحفاظ على الدولة بقدر مايولفها مصالح ذاتية غير سياسية وغير وطنية محمولة على أجندة خارجية عربية وإقليمية وفي مقدمتها النظام السوري وإسرائيل وإيران، ولم تستطع كل الأطراف من فرز تخوم المصلحة الوطنية وتقوية الدولة والحفاظ عليها مع أجندة هي على النقيض تماماً من ذلك، فأنتجت تكسير أواصر الدولة والفراغ الدستوري والرئاسي،و أدخلت لبنان بهذا الشكل السائب ساحة الصراعات الإقليمية المتداخلة هي الأخرى وغاصت جميع الأطراف في مستنقع السياسيات الخارجية، وهذا هو عقدة العقد في مقاربات الأطراف اللبنانية وخاصةً حزب الله الذي رهن نفسه تماماً في دائرة تدخلات النظامين السوري الإيراني الغير مشروعة والغير نزيهة والمؤذية بمصالح اللبنانيين جميعاً بدون استثناء.

فلبنان الحر التعددي الديمقراطي الذي صدّر له العرب بنجاح منقطع النظير كل تناقضاتهم وعجزهم وعقدهم، يدفع ثمن هذه الثنائية بتسلسل مضغوطاً مهشماً بين حدي الدولة الوطنية الديمقراطية أو اللادولة المتمثل في سيطرة قوى الطائفية السياسية والمذهبية بشتى تجلياتها على الحياة العامة فيه، وعليه لابد من الصدق والمصارحة والجرأة في وضع المأزق باستقامة واعتدال للخروج منه،وبدايته هو تجاوز التفاضل السلبي بين الدولة وبين الفراغ، فلكل منهما تجلياته وأدواته ومفاعيله وميليشياته وصراعاته ونتائجه، ووضع المأزق على هذا النحو هو مقدمة الخروج من هذا السجال الطائفي القبلي الدموي المستمر المتناغم مع ترددات الأحداث الاقليمية والبالغ الكلفة على الجميع، وعند تحديد الخيار تتضح أطرافه وتتأسس آلياته وتتمأسس بنيته وعلاقاته وتتوضح خيارات جميع الأطراف ومسؤوليتهم في ذلك، ويصبح خياراً واضحاً شرعياً بإجماع وطني عام، بتكثيف الأمر، إن المأزق في عمقه الاجتماعي السياسي هو حول ماهية الدولة وماهي وظيفتها وماهي قدرتها على نظم العلاقات بين المجموع، وماهي طبيعة علاقتها بالفرد والمجتمع، وماهي قدرتها على فرض احترام المساحة الوطنية العامة التي تخص المجموع؟! وهل هي محاصصة الطوائف والمذاهب، أم هي الدولة الوطنية المستقلة عن تناقضات الأطراف والتي توفر المساحة المتساوية للجميع؟!.

فالدولة الوطنية هي خيار المجموع للخروج من المأزق،ولامناص من ذلك غير الاستمرار في دوامة الحروب العبثية،وعليه يجب التعامل معها بمستوى عالي من الشفافية والصدق والإرادة وترجمتها عملياً بالقانون والعرف والوعي الذاتي للفرد ووضوح علاقته بها والحفاظ عليها واحترام وجودها المادي والمعنوي بماهي جوهر وجوده وأساس علاقته مع المجموع، في ضوء ذلك يتحدد المدخل إلى فهم الدولة وطبيعة العلاقة معها، بكل أسف نقول أن المدخل الطائفي والمذهبي لازال هو عدة وعتاد الأحزاب والحركات والميليشيات السياسية في لبنان والمنطقة العربية، هنا بالضبط يمكن فهم مايقوم به حزب الله في لبنان ومن أين بدأ وكيف مشى وإلى أين وصل وإلى أين دفع لبنان حيث مشهد الحرائق والدماء والخراب هو المحصلة، باختصار إنه المدخل الطائفي المذهبي إلى فهم الدولة الوطنية والذي أنتج كل هذا التناقض في الشكل والأداء والدور على مستوى لبنان وخارجه، على النقيض من ذلك يبدو طريق الخلاص من المأزق هو حتمية المدخل السياسي التعددي الديمقراطي إلى الوطنية التي هي جوهر الدولة السياسية المدنية الحديثة .

فالوطنية ليست صبغاً عشوائياً أو تحديداً لغوياً لفظياً لإطار الدولة أو حكم قيمة لها، بقدرماهي حكم واقع يرتبط بمصالح أفرادها وبأساس الدولة الوطنية ومبادئها، وهي ليست اختياراً دينياً أو إيديولوجياً، وهي لاتتعلق بالاختلاف والتنوع على المستوى الديني والعرقي والاثني، بل يتعلق بكنه الدولة الوطنية نفسها، فالاختلاف هنا هو أحد العوامل المحفزة على أن تكون الدولة فوق طائفية وفوق مذهبية لكي تكون الحاضن القانوني والسياسي لجميع الأفراد، وفي مايخص حزب الله نرى أنه يصر على الدخول من الباب الدوار إلى الوطنية مازجاً بين مجموعة من المتناقضات مستخدماً إياها حسب المصلحة الذاتية المرتبطة بأفق خارجي وموقف ديني من المسألة الوطنية يضفي عليها طابع العصمة والقداسة، هنا بالضبط تكمن المداورة والالتفاف على الدولة بما هي الشكل الوحيد الضروري للمساواة بين الأفراد والشرائح الاجتماعية الأخرى، فالمساواة هي ليست في الظلم وانتهاك الحريات والخراب، بل المساواة في الحقوق والواجبات التي هي التعبير العملي عن العدالة، فالتعددية الديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة هي الخصائص الأساسية للدولة الوطنية، التي تحدد وتمنح الشرعية للجميع بالتساوي في القيمة والمسؤولية والوظيفة .

(2)

ليس خافياً أن حزب الله ولد من رحم الاحتلال والتناقض والحروب الأهلية الطائفية والمذهبية التي عصفت بلبنان وأنتجت وصاية وهيمنة النظام السوري على لبنان الدولة والمجتمع والحركات والأحزاب المدنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وكل مظاهر الحياة في لبنان، متخذاً منه الحاضنة الفعلية البشرية لتعميق مفهوم الطائفية السياسية والقضاء على التشكيلات المدنية السياسية وكل مظاهر التعددية الديمقراطية وحصر كل تناقضات لبنان خبثاً في موضوع الصراع العربي الإسرائيلي وكثف ساحته في لبنان تحديداً مع إغلاق الجبهة السورية وسكونها وتحييدها تماماً عن الصراع، ولايخفى على أحد ذلك المشروع الخطير الذي انحصر لبنان الضعيف فيه بين قوى محلية طائفية ونظام سوري شمولي طائفي هو الآخر وبين موازين قوى إقليمية خارجة عن قدرة لبنان والعرب جميعاً، الأمر الذي دفع لبنان لأن يكون مختبراً للنظام السوري وبعده الإيراني ومعهم الاسرائيلي وعلاقتهم مع القوى الخارجية، ودائماً كان لبنان يقدم قرباناً وضحية مرة تلو الأخرى على خشبة التناقضات الإقليمية وخاصة ً عند وصول الأطراف المتصارعة إلى طريق مسدود حيث يصبح الانفجار أمراً لامفر منه.

واستطراداً إن المرحلة الحالية التي يعيشها لبنان بعد هذا العرض والاستخدام الهمجي للقوة العسكرية،والانقلاب على الشرعية الوطنية والسياسية والأهلية والذي تجلى بسلوك وصور محزنة من عرض القوة والسلاح،واستخدامه ضد المدنيين وضد الأطراف السياسية اللبنانية ومارافقها من عبث وتخريب في الممتلكات العامة واحتلال المراكز الإعلامية والقنوات التلفيزيونية ومنعها من متابعة عملها،ورفع صور لرموز معروفة بجبنها وانتهاكها الخطير لحقوق الإنسان ومساومتها على المقاومة والمصالح الوطنية والقومية، وتطويق رموز المجتمع المدني السياسي ومحاصرتهم وتهديد حياتهم، يذكرنا جميعاً بصور مأساوية للاحتلال واستخدام العنف ضد الأبرياء في ظل احتلالات أخرى، ورغم أننا في دوامة الأحداث المؤلمة الحالية وفي عجالة نقول أن بداية التوافق على المخرج هو في وقف عمليات الشحن الطائفي والمذهبي المترافق مع تخوين الآخر بمزاجية وسهولة وبساطة، والتراجع عن عرض القوة الخائب الذي ليس له معنى سوى دفع لبنان إلى ساحة الفوضى الخلاقة التي صدمت الجميع بانحدارها في الأيام الاخيرة أولاً، والرجوع إلى الحقيقة الوطنية التي تجمع اللبنانيين جميعاً ولاوجود لهم خارجها ثانياً، والإقرار بأن استخدام القوة والعنف والفرض هو قمار لارابح فيه والجميع خاسرين ثالثاً، وتطويق ومنع كل مظاهر السلاح وحامليه ومن كل الأطراف وخاصة ً حزب الله رابعاً، والرجوع إلى المبدأ الذي لابديل عنه وهو الحوار على طريق التوافق على مخرج سياسي دستوري مؤسسي من المأزق خامساً، والحفاظ على مؤسسات الدولة وعدم جرها إلى ساحة التجاذبات المذهبية وخاصة الجيش واحترام رمزيته والحفاظ على وحدته ودوره بماهو جيش وطني للجميع سادساً، ومحاولة الخروج من نفق التأثيرات والوصاية والتبعية الخارجية على خلفية وقفة ضمير وعقلانية ومسؤولية وطنية لوقف الفتنة سابعاً، والبدء الشرعي في انتخاب رئيس للجمهورية يحافظ على وحدة الدولة اللبنانية وتوفير المناخ السياسي الحر الديمقراطي لمناقشة جريئة وصريحة لحزمة الاستحقاقات التي أفرزت هذا الوضع الخطير في لبنان أخيراً.

بقي أن نقول أن على حزب الله الذي تمتع برصيد وطني وأخلاقي وديني هو في المحصلة قوته ودوره الوطني وسبب وجوده والذي انقلب عليه تحت ضغوط إقليمية كبيرة معروفة أطرافها وأهدافها وبرامجها،وسبب ومدى التظاهر بحرصها على اللبنانيين ! وعلى حزب الله وقبل فوات الأوان عدم الاستمرار في الغي والطيش إلى أسفل السافلين، وأن يدرك وبسرعة أن اتجاه السلاح ليس هو صدور اللبنانيين ومؤسساتهم، وأن شرعيته ليس في امتلاكه بل في دوره الوطني لحماية وحدة لبنان واستقلاله وسيادته وديمقراطيته،وأن السلاح لاقوة له ولاقيمة وطنية إذا أصبح خارجاً عن القانون والشرعية وموجهاً ضد أبناء الوطن، بل ينحدر إلى مستوى قوة الاحتلال وقطاع الطرق وللأسف تنفيذاً لرغبة كل الأشرار الذين لايريدون الخير لحزب الله ولا إلى لبنان ولاإلى العرب ولا إلى المسلمين ولاإلى كل شركاء الجغرافيا والتاريخ والعيش المشترك .

إنها ساعة الحقيقة والعقل والمسؤولية الوطنية والدينية في تحديد الخيار الوطني الحر، والعمل السريع على وقف هذا السرطان المستشري في نسيج المنطقة، وندرك أن هذا ليس سهلاً في مستوى تراكم الكراهية والاستقطاب الرديئ وعمق الجرح اللبناني،مع ذلك ليس مستحيلاً بل مطلوباً أكثر من أي وقت مضى علَه يكون مواساة ً للجميع أن سيلان الدماء والدموع والخراب ليس عبثياً وأن حزب الله يعنيه حجم الكارثة وضريبتها، وعلى حزب الله أن يدرك أنه كان ثمناً لجملة السياسات الخاطئة التي أعقبت تحرير لبنان من الاحتلال، وأن جرح لبنان هو جرحه الذي يفرض بدون شروط ضرورة اللقاء في منتصف الطريق لتضميد الجراح والخروج من المستنقع الخطير الذي تدهورت إليه الأمور، بخلاف ذلك سيستمر النزف والخسارة والدمار في جسم لبنان، وحزب الله على رأس قائمة الخاسرين على المستوى الاستراتيجي، فلا مكسب ولاربح ولاقوة ولاوجود بخسارة الحاضنة الوطنية والشعبية والعربية والإسلامية رغم الجلوس على تلال كل صنوف الأدوات الجارحة ...!.

د.نصر حسن