كان النهار حارا كعادته في أم درمان في تلك الساعة من عصر العاشر من شهر مايو. وكانت حواية تبيع الشاي في مكانها المعتاد تحت الشجرة التي ظفرت بها أمام مبنى البلدية. وكان أمامها نصف ساعة أخرى لتنتهي من وردية شاي الغداء، وبعدها تجمع أوانيها لتغادر إلى منزلها في السكن العشوائي غرب المدينة قبل مغيب الشمس.
لم يكن مثل ذلك اليوم الساخن يوعد بأي شيء سار، وكانت المدينة صاخبة بحركة الناس، إلا أن هدوءا غريباً كان قد سكن حواية في ذلك اليوم، فكانت تسرح بفكرها كثيرا.... تستعيد بعض أشياء من ماضي قريب لا زال حياً يؤرقها....تذكرت كيف قطعت تلك المسافة الطويلة من الطينة في دارفور، ثلاثة أشهر مشياً على الأقدام والدواب والسيارات، لتستقر في أم درمان مع الكثيرات من نساء دارفور اللاتي شردتهن الحرب.
كانت تفكر في أبنائها الذين هربوا في ذلك اليوم المشهود في الطينة، مات الأصغر بين يديها تحت قصف الطائرات وغارات جند الحكومة، وهرب الصبيان الاثنان إلى مكان غير معلوم. أربع سنوات مرت الآن على تلك الواقعة، وهي تذكرها كأنها حدثت بالأمس القريب، لا تعلم عن أبنائها شيئاً. وسقطت دموعها فاختلطت ببخار إبريق الشاي المغلي.
كفكفت دموعها بسرعة تحت صوت أول زبون يطلب كوب شاي ساخن، وواصلت عملها.
فجأة توقفت سيارة لاندكروزر أمام المبنى، تنبهت حواية للمشهد وانتابها شعور بالانقباض، فمنظر السيارة بسقفها المفقود والرمال العالقة فيها كان مألوفاً لها. وكانت السيارة تحمل مدفعاً كبيرا، وعلى ظهرها صبية ملثمون يتصايحون وهم يصوبون أسلحتهم الرشاشة نحو المبنى.
وحين رأت ذلك وفهمت لغة الصبية، لجمت الدهشة لسانها وانطبقت شفتاها عن كلمات لم يسمعها احد. كانت حواية متأكدة مما رأت، ولا يداخلها شك فيه.
لم تجفل من مكانها بل لملمت أسمالها وزحفت إلى الوراء قليلا لتتكئي على جذع الشجرة التي طالما عاشت تحتها لتبيع الشاي لرواد البلدية. بقيت على هذه الحالة لثواني قبل أن تشاهد مجموعة الرصاص التي أطلقها المقاتلون تندفع نحوها.
وفي ثواني أخرى تحولت الشجرة إلى شجرة للخلود.
بدأ الرصاص ينهمر ببطء نحو جسدها النحيل وهو يهتز من قوة الدفع، وسالت خيوط من الدماء الدافئة على رقبتها وصدرها لتستقر تحت جذع الشجرة.
هدأت قليلا ثم خرجت كلمات مبهمة من فمها المضرج بالدماء... quot; أنا...أمـ..quot;
ولكن ضاع صوتها الخافت تحت هدير الرصاص.
نهضت قليلا لتنام في وضع مريح، ومدت رجليها بعيدا عن إبريق الشاي المغلي حتى لا يندلق فوقها، و أزاحت بيدها السكرية قليلا حتى لا تختلط بدمها المنهمر، وراحت تغط بين غيبوبة ونوم عميق، تتوسد دمائها الجامدة....
وهومت روحها بعيدا.... quot;رأت رمالاً بيضاء بلا حدود، وصبية يرتعون ذات دعاش خريفي، وشمت روائح كانت قد سكنتها منذ زمن قديم.... رائحة الأرض، رائحة أبنائها وهم يخرجون دون رجعة، رائحة الحرائق، رائحة دم مشوي، وصوت أزيز الطائرات...وصراخ الجنجويد وهم يسخرون من الموت النبيل....لم يفارق أذنيهاquot;.
عندما فاقت لثواني لتلفظ أنفاسها الأخيرة، شعرت ببرودة المكان، تفحصت الوجوه الصغيرة التي كانت تستلقي بجانبها في المشرحة القديمة في وسط المدينة، و كان الصمت يخيم على المكان.
وقبل أن تنطق بالشهادة صرخت حواية:
....عيالي...أنا أمكم.. وماتت.
فلم تسمعها إلا ألواح الثلج التي تناثرت على جثث أبنائها الاثنين اللذين يرقدان إلى جانبها.