قد يبدو هذا السؤال
الوارد في العنوان وللوهلة الأولى منطويًا على تناقض أو غريبًا بعض الشّيء. غير أنّ هذه الغرابة سرعان ما تنجلي لو حاولنا سبر أغوار هذا السؤال على خلفيّة ما يحصل في السّنوات الأخيرة في السّاحة العربيّة. لأنّنا لو فعلنا ذلك فسنصل حتمًا إلى الإجابة المترتّبة عن هذه الأحداث الحاصلة، وهي أنّ هؤلاء البعض، ممّن يدّعون الإيمان، هم كافرون أصلاً. هم كافرون، على الأقلّ، من وجهة نظرهم هم بشأن ما يتعلّق بجوهر إيمانهم.
فقد شاعت في السّنوات الأخيرة في وسائل الإعلام العربيّة، كما نقرأ صبوحًا وغبوقًا، فتاوى التّكفير الّتي تصدر بين الفينة والأخرى عن هذه الجهة أو تلك، في هذا البلد أو ذاك. وقد تأتي هذه الفتاوى مرّة بخصوص كاتب أو شاعر ومرّة بخصوص فنّان أو فنّانة وما إلى ذلك من أمور تشهدها السّاحة العربيّة. وقد تصل بعض هذه القضايا حتّى إلى أروقة المحاكم طلبًا للتّفريق بين زوجين مرّة أو اتّهامًا لشخص بالزّندقة والكفر مرّة أخرى، أو قد تصل إلى تعليمات بحظر عرض كتاب في معرض للكتاب هنا وهناك بدعوى المسّ بالذّات الإلهيّة، كما قرأنا مؤخّرًا عن حظر عرض مئات الكتب ضمن فعاليّات معرض الكتاب في الكويت، ومثلما ورد على لسان وزير الإعلام الكويتي للصّحافيين: quot;ان الكتب الممنوعة هي التي فيها مساس بالذات الالهية أو المساس بالكويت. وأي مساس ضد دولة الكويت لن نسمح له لا الآن ولا في السنوات القادمةquot;. وهكذا بجرّة لسان وزير مستوزر يساوي هذا الوزير بين المساس بالذّات الإلهية والمساس بالكويت، إن لم يكن أبعد من ذلك، جريًا على نهج الشّاعر العربي الّذي قال: quot;ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ - فاحكمْ، فأنتَ الواحدُ القهّارُquot;. غير أنّ هؤلاء المدّعين ضدّ الكفر في هذا القطر أو ذاك قد نسوا أنّهم بفعلهم هذا إنّما يكفرون هم بجوهر إيمانهم هم بالقوّة وبالفعل.

فلو نظرنا إلى جوهر إيمان
هؤلاء النّفر من البشر - وقد يقلّون أو يكثرون، لا فرق - كما تعرضه علينا أدبيّاتهم، فماذا نحن واجدون؟ لننظر مليًّا مثلاً في طبيعة هذا الإله الّذي يدافعون عنه. وفي هذا السّياق، لعلّ التّطرُّق إلى الأسماء الحسنى على سبيل المثال يشكّل أسهل وأسلك هذه المداخل لفهم هذه الطّبيعة. فالأسماء الحسنى ليست سوى تلك الصّفات الّتي يغدقها المؤمن على الذّات الإلهيّة من جهة، أو تلك الصّفات الّتي تُغدقها الذّات الإلهيّة على نفسها من جهة أخرى. نعم، فالذّات الإلهيّة مولعة على ما يبدو بحبّ الذّات لدرجة غريبة، ولذلك فهي تُغدق الصّفات على نفسها بنفسها، كما يروي لنا السّلف على الأقلّ. لنقرأ معًا: quot;عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه السموات السبع والأرضين السبع في قبضته ثم يقول quot;أنا اللّه،أنا الرّحمن، أنا الملك، أنا القدوس، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المُهيمن، أنا العزيز، أنا الجبّار، أنا المتكبر... أنا، أنا وأنا، إلخ.quot; (عن: السيوطي، الدر المنثور، ج7 ص 247). أو كما ورد في الحديث التّالي: quot;قال الله تعالى: الكبرياءُ ردائي والعظمةُ إزاري، فمن نازعني فيهما قصمته. أخرجه الحاكم في المستدرك دون ذكر العظمة وقال صحيحquot; (عن: الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3، ص 336)
صحيح أنّ هنالك خلافًا كما يظهر من روايات السّلف حول عدد الأسماء الحسنى، فمنهم من يضيف إلى العدد ومنهم من ينتقص منه، وهنالك من يقول إنّها تبلغ المئات والآلاف من الصّفات والأسماء، غير أنّ الشّائع هو كون عددالأسماء تسعة وتسعين كما ورد في الحديث النّبوي: quot;إن للّه تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنةquot; (عن الأسماء والصّفات الحسنى واختلافات العدد أنظر: إبن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج 11، ص 214-220).

لكن، ومهما اختلف المؤمنون
بشأن تعداد الصّفات والأسماء، فما من شكّ في أنّهم يجمعون على بعض تلك الصّفات الّتي تغدق الصّفات الّتي تعني الكبرياء والعزّة والقدرة والغنى والانتقام. فمن تلك الأسماء على سبيل المثال: العزيز، القهّار، المُذلّ، السّميع، البصير، العظيم، العليّ، الكبير، الحسيب، المحيي، المميت، القادر، المقتدر، المُنتقِم، الغنيّ، وإلخ وهي تدلّ على معانيها، فهو: quot;العزيز الجبّار المتكبّر العليّ الذي لا يضعه عن مجده واضع، الجبّارُ الذي كل جبّار له ذليل خاضع، وكلّ متكبّر في جناب عزه مسكين متواضع، فهو القهّار الذي لا يدفعه عن مراده دافع، الغنيّ الذي ليس له شريك ولا منازع...quot; (الغزالي، إحياء علوم الدّين، ج3 ص 336). فهو القهّارُ الّذي: quot;لا شريك له في ملكه وسلطانه، والقهّار لخلقه بقدرته، فكلّ شيء له مُتذلّل، ومن سطوته خاشعquot; (عن: الطبري، تفسير، ج 21 ص253)، أو: quot;المُذلّلُ المستعبدُ خلقَه، العالي عليهم.quot; (الطبري، تفسير، ج 11 ص 228). وهو المُحيي والمميت، وهو السّميع والبصير والعليم، وهو الحسيب، أي: quot;وهو القاهرُ لكلّ شيء الحسيبُ على كلّ شيء الرقيبُ العليّ العظيم...quot; (تفسير ابن كثير، ١ ص ٦٨٢). وهو أيضًا المُنتقمُ، أي: quot;المنتقمُ من أعدائه الرحيمُ بأوليائهquot; (عن: تفسير القرطبي وزاد المسير لابن الجوزي). وغير هذا الكثير الكثير ممّا تعجّ به كتب التّراث الإسلامي، ولا حاجة إلى تكرار هذه الأوصاف فهي شائعة يعرفها الجميع، أكانوا من العامّة أم من الخاصّة.

فإذا كانت هذه هي طبيعة الإله،
كما تظهر من الرّوايات التّراثيّة، فماذا نقول لأمثال هؤلاء المُكَفِّرين الّذين يخرجون علينا بين الفينة والأخرى بدعاوى وفتاوى التّكفير؟ أليس من المنطق أن نقول لهم: كُفّوا بربّكم عن هذه الأفعال والتّصرّفات، كُفّوا بربّكم عن الاستهتار بإلهكم أنتم، وعلى الأقلّ من وجهة نظركم وإيمانكم أنتم به. فإذا كان الإله كما تصفون وتسمّون سميعًا عليمًا بصيرًا رقيبًا حسيبًا جبّارًا منتقمًا قادرًا على كلّ شيء، فهو، والحال كذلك، قادرٌ أيضًا على الدّفاع عن نفسه بنفسه وليس بحاجة إلى أناس مُغرضين جهلة مثلكم يهبّون صباح مساء للدّفاع عنه. لأنّكم في الحقيقة، وبأفعالكم هذه، إنّما تكفرون بهذا الإله الّذي تؤمنون به أنتم على طريقتكم، ولأنّكم بذلك إنّما تنسبون له ضعفًا كما لو كان من اليتامى أو أبناء السّبيل، ويحتاج إلى أن تمدّوا له يد العون. وأخيرًا، لأنّكم بأفعالكم وتصرّفاتكم هذه، إنّما تتحوّلون في نهاية المطاف، كفّارًا ليس بالقوّة فقط، بل كُفّار بالفعل أيضًا.
والعقلُ وليّ التّوفيق.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية