بتاريخ 23 يوليو من عام 2007م كان الناصرين يحتفلون بعجل السامري، ثورة الضباط الأحرار، كما يحتفل كاسترو كل عام في ذكرى الانقلاب الفاشل في الهجوم على ثكنة موناكادو.
وبنفس التاريخ كانت محكمة القذافي تعلن عن الوصول إلى حكم نهائي في قضية الممرضات البلغاريات، اللواتي كان قد أعلن فيما سبق أنهن كن السبب في نقل مرض الإيدز للعديد من الأطفال عن طريق نقل الدم الخاطئ من دم ملوث.
دخلت في نقاش مع زوجتي عن طبيعة الحكم الذي سيصدر، وكانت توقعاتي لها أن القذافي أو محاكم القذافي الثورية ـ باعتبار أن القذافي لا يحكم بل الشعب بلجانه الثورية؟ ـ سوف تبرئ ساحة الممرضات ولو بلغت خطاياهن عنان السماء، فهذا سوف يرضي الغرب، والرجل يهمه رضاء الغرب عنه بأي ثمن، طالما كان ذلك سوف يمد في عمر العرش السلطاني ردحا من الزمن..
وفعلا صدقت توقعاتي ليس من ذكاء وسعة علم، بل من واقع عربي ميت.
والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون.
وفي الواقع حين أقيس أمور المشافي وكيف تقع الأخطاء الطبية، وأنا رجل طبيب أمارس المهنة منذ 35 سنة فأعلم تماما طبيعة مشافينا في العالم العربي، وأين حدود المسئولية في الأخطاء الطبية؟.
والعمل الطبي سلسة من ترابط حلقات بعضها ببعض، فالطبيب قد يعمل أفضل عملية، وقد يضيع عمله بأتفه الأخطاء، وقد يموت مريضه من هذه الأخطاء التافهة؟!
والسبب أن العمل الطبي في العالم العربي يشبه كثيرا الوضع الثقافي، وحين يضرب الطاعون السياسي المنطقة؛فمعها الطاعون البيولوجي تلقائياً..
وهذا يعني وأنا أتفهم هذا الموضوع أن الممرضات البلغاريات هن حلقة في سلسلة طويلة، وروى لي ممن أثق به أنه كان يعمل في ليبيا فلم يعرف كيف يفر منها، ولم يكن الأول الذي فر ولن يكون الأخير..
وقصة الممرضات البلغاريات هي سياسية قبل أن تكون طبية، بكلمة ثانية هي لوكربي جديدة..
ومن يقرأ التاريخ يفهم. .
ففي يوم الثلاثاء 10 أغسطس 2004 توصل وفد ليبي وممثلون عن ضحايا اعتداء ملهى (لابيل) في برلين عام 1986 إلى اتفاق ينص على أن تدفع ليبيا مبلغ 35 مليون دولار كتعويضات للضحايا.
وهو اعتراف بالجريمة وانسحاب من موقف البطولة إلى مواجهة الواقع المر.
وقبل هذا وفي 9 يناير من عام 2004 اتفقت فرنسا وليبيا على مبلغ 170 مليون دولار، وكانت نهاية مطاف التفاوض حول التعويضات التي يجب أن تقدمها ليبيا لضحايا الطائرة الفرنسية (يوتا) التي انفجرت فوق صحراء النيجر عام 1989 وقتل فيها 170 شخصا.
وكانت ليبيا قد دفعت مبلغ 33 مليون دولار على مدى السنوات الماضية لفشلها في تسليم ستة أشخاص مشتبه بهم في حادث الطائرة الفرنسية.
والطامة الكبرى كانت في 22 أغسطس 2003 حينما اعترفت ليبيا صاغرة بمسئوليتها حول تفجير الطائرة التي انفجرت فوق مدينة (لوكربي) الاسكتلندية وقتل فيها 259 شخصا، واعتمدت ليبيا دفع مبلغ 2. 7 مليار دولار لعائلات ضحايا الطائرة الأمريكية، بعد أن اقر القذافي بمسئوليته عن حادث التفجير بعد عناد ومواجهات، تذكر بقصة جحا وكيسه.
ففي يوم صرخ جحا في السوق أنه أضاع (خرجه) الذي يضعه على ظهر الحمار، وأقسم بالله أنه سوف يفعل الأفاعيل إن لم يرجعوا له كيسه. فصدق القوم الخبر وبذلوا أقصى الجهد حتى أعادوا له الكيس ثم تقدم أحدهم فسأله: يا جحا ما كنت فاعلاً لو لم نجده؟ فالتفت إليه جحا وقال: كان عندي كيس قديم كنت سأستخدمه بدلا عنه؟
في الواقع ليس أبغض على النفس من الانتقاد ولا تسكر النفس بخمر كالثناء والويل للمغلوب، ولذا فليس من شيم الكرام الشماتة أو مزيدا من النيل، ولكن يبقى تساؤل ما الذي جعل القذافي ـ وهو ليس الوحيد في عالم العروبة ـ الذي يستدير 180 درجة في حركته، فيستقبل المغرب بعد أن استدبره بتعبير أبو حامد الغزالي؟
ولماذا هذا التحول في المواقف الراديكالية من اعتبار الغرب شيطانا مريدا إلى ملاك رحيم. ونحن نعرف في الفلسفة أن البشر ليسوا ملائكة ولا شياطين، بل عباد الرحمن الذين يخطئون ويصيبون ويصعدون ويهبطون؟
وأتذكر من (مالك بن نبي) المفكر الجزائري الذي تحدث عن مرض الطفولة في عالم السياسية، وأن تربية الطفل تبدأ منذ أيامه الأولى بل وربما في الرحم، وعندما يصل الطفل إلى المدرسة تكون برمجته الثقافية قد انتهت.
وهناك فرق بين الثقافة والعلم؛ فالطبيب الألماني والنيجيري يدرسان نفس علوم التشريح والفيزيولوجيا (علم الغرائز)، ولكن في الحياة العملية يعتمد الأول مبدأ (الفعالية) والثاني (كلّ) على مولاه أينما توجهه لا يأتي بخير، هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون.
فهذا هو السر في تفوق الحضارة في أرض وقتلها في مكان آخر.
ومما ذكر مالك بن نبي أن العرب تصرفوا في حرب 67 بمنطق الأطفال من اعتبار إسرائيل ساعة (دويلة عصابات) وأخرى (تنين نووي) فقاموا بالصراخ مثل أي طفل عربي مدرب على البكاء في حل مشاكله.
فهذه قوانين في التربية.
ويبقى سقوط الجولان ضمن هذا التفسير من البكاء عسى أن يتحرك العالم ليسعف العرب.
ولكن قانون التاريخ يمضي وفق شيء آخر غير صراخ الصبيان.
والغرب منافق، فقد أوردت مجلة الشبيجل كيف بدأ الغرب بامتداح القذافي واعتباره نموذجا رائدا في عالم العرب، والسبب هو عدم مقاومته أكثر من نزاهته.
وغاندي ما زال الغرب حتى اليوم يخشع لذكره فهذا هو الفرق بين النضال الإنساني وأعمال المراهقين غير الناضجين.
ويبدو أن قصة رأس صدام وبرزان المقطوع ألهمت القذافي الحكمة كما ألهمت الثعلب في رواية كليلة ودمنة؛ ففي يوم اجتمع الأسد مع الذئب والثعلب في صيد فكانت حصيلته ثور وخروف ومعزة؛ فسأل الأسد الذئب ماذا ترى في قسمة الصيد؟
قال الذئب الأمر واضح فالثور لك والخروف لي والمعزة للثعلب؟
فما كان من الأسد إلا أن أهوى بذراعه على رأس الذئب بضربة واحدة فتدحرج رأس الذئب.
ثم التفت إلى الثعلب فقال يا أبا حصين ما رأيك في القسمة؟
قال الثعلب: يا ملك الغابة القسمة واضحة ولا نقاش فيها؛ فأما الثور فهو لغدائك وأما الخروف فهو لإفطارك، وأما المعزة فتتعشى بها تسلية.
ضحك الأسد وقال من أين تعلمت كل هذه الحكمة؟ قال من رأس الذئب المقطوع؟
والقذافي أبصر صنم تمثال الذي نسف، ورأس برزان الذي قطع مع معاليقه، ورأس صدام الذي علق فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، وأولاده الذين قتلوا شر قتلة في الموصل، وكيف تفرقت جماعته أيادي سبأ.
فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين، فتعلم القذافي وتواضع ودخل بيت الطاعة الأمريكية.
وحين يكون الطاغوت يحكم البشر، فيبقى على الطاغوت الصغير تقديم ولاء الطاعة للطاغوت الأكبر.
وحين يتحول العالم إلى سفاري تسرح فيها الضواري، فليس أمام الوحوش الصغيرة إلا الفرار أو الاستسلام أمام الديناصور اللاحم؟؟
ومن حكم الشعوب بالقوة لم تدافع عنه يوم الزلزلة.
واليوم بعد أربعين سنة من الحكم في ليبيا نرى حصيلة الكتاب الأخضر الذي رفع بما هو أعظم من القرآن؛ فزعم صاحبه أن فيه الحل النهائي لكل مشاكل الجنس البشري، وهو لم يحل مشكلة في بلده.
فأبدلهم الله من بعد أمنهم خوفا، وشبعهم جوعاً، وكرامتهم ذلا، مما يبكي عمر المختار في قبره.
ومشكلة الديكتاتورية أنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين مهما دهنت بلون أبيض أو أخضر.
وكل واحد من الطغاة يقول إذا رأى الآخرين أن هذا لا ينطبق عليه فهو استثناء على القانون.
والمشكلة كما شرحها (خروشوف) في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي وهو يهاجم ستالين بعد أن أصبحت عظامه رفاتا وهي رميم، كيف أمكن لرجل واحد أن يستعبد الناس بهذا القدر؟
ولكن آلة الحكم هي عادة بيد عصابة، وصدام وحاليا القذافي ويشبهه آخرون في الغابة العربية، أشركوا في جرائمهم العديدين، من خلال تقسيم مهمات الجريمة على آخرين؛ فأصبحوا جسما واحدا، ومن هذا الجسم الجهنمي تنبت أذرع وأقدام مثل الديناصور الناري، فتمسك بكل الأمة، لحين هجوم ديناصور أقوى فيدمر الأول.
وهذا الذي يحصل حاليا في العالم العربي بعد دخول الديناصور الأمريكي إلى غابة العرب وقتل الضواري التي تعترض طريقه.
والسؤال كيف يستطيع الشيطان أن يكتب مصير الناس والله يقول إن عبادي ليس لك عليهم سلطان؟

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلافتسبب ملاحقة قانونية