فى عام 1965 صدر كتاب بعنوان quot;نقد التسامح الخالصquot;، يحتوى على مقالات ثلاث حررها ثلاثة فلاسفة، هم : روبرت بول فولف، بارنجتون مور وهربرت ماركيوز. ومع تباين آرائهم إلا أنهم متفقون على أن التسامح، نظرياً وعملياً، ما هو إلا قناع يخفى حقائق سياسية تتسم بالرعب والفزع، وخلاصة رأيهم أن التسامح ينطوى على نقيضه وهو عدم التسامح وهذه هى اشكالية التسامح، التي تحلق بقوة كالروح المستحضرة في سماء النقاش الأكاديمي الدائر في أوروبا اليوم.
وهو يذكرنا بكانط وكتابه العمدة quot;نقد العقل الخالصquot; ، الذي أحدث ثورة كوبرنيقية في مجال الفكر. فإذا كانت الغاية من نقد العقل عند كانط، الكشف عن quot;الوهمquot; الكامن فى عقل الإنسان الذى يدور حول قدرة هذا العقل على quot;اقتناصquot; المطلق. فالغاية من نقد التسامح الكشف عن quot;الوهمquot; الكامن فى الأنظمة السياسية التى تزعم أنها تتسم بالتسامح وهى ليست كذلك.
فقد حدد quot;إعلان مبادئ التسامحquot; الصادر عن اليونسكو فى سنة 1995، التسامح، بأنه : quot;ليس فقط مجرد التزام أخلاقى وإنما أيضاً ضرورة سياسية وقانونيةquot;. ومن هنا فإن التسامح فضيلة وممارسة تجعل السلام ممكناً بين الشعوب، باستبدالها الصريح للحرب باللاعنف، بحيث يتحول إلى تسامح نشيط يمتلك حق العمل علي تحييد الشعوب ووقايتها وحمايتها وتربيتها، فى ممارستها السياسية والمؤسسات الاجتماعية، وخصوصاً عن طريق الأسرة والتربية وثقافة السلام.
ومادام أفق السياسة مرتبطا بممارسة السلام الاجتماعى والمدنى، فإنه مرتبط بالتسامح. إن ممارسة التسامح مبدأ للتعايش ولاحترام الآخر، سواء حدد كصديق أو كخصم أو غير ذلك، فإنه يشارك مثلنا تماماً فى الحياة العامة حيث تتقابل الآراء والمبادئ عن طريق quot;المسافة المناسبةquot; التى يهيئها العقد الاجتماعى أو الميثاق الوطنى، ويعد لها حسب مختلف المصالح المتعارضة بالقول والفعل.
هنا يكمن مدلول الوفاق أو التعاون الذى يربط التسامح بالسلام واحراجاته، وتنسج الحدود التى تسمح ببروز أخلاق سياسية، وبإمكانية ابتكارها. فالتسامح ليس كلاماً معسولاً نغلف به الاختلافات الواقعية للآراء والمعتقدات، وإنما ممارسة فعلية لهذه الاختلافات فى إطار تعاقدى يزاول فيه المختلفون اختلافهم دون عنف أو فرض أو قهر.
وحسب الفيلسوف الفرنسى quot;ادجار مورانquot; فإن التسامح ضرورة ديمقراطية، لأن الديمقراطية تتغذى من صراع الأفكار، وتندثر بصراع الأجساد. والديمقراطية هى ذلك النظام الذى يحترم عملياً ثلاثة مبادئ أساسية : وهى مبادئ لا يمكن ضمانها إلا فى نظام تمثيلى برلمانى. وهذه المبادئ لا تعود إلى اليونان كما يبدو للوهلة الأولى، وإنما إلى ثلاثة فلاسفة محدثين هم : جون لوك فيما يخص المبدأ الأول، ثم جون لوك ومونتسيكيو فيما يخص المبدأ الثانى، ثم جان جاك روسو فيما يخص المبدأ الثالث.
أما المبدأ الأول فهو مبدأ quot;التسامحquot;، ويلزم الدولة بأن تضمن على أرضها حرية التعبير عن المعتقدات السياسية، والفلسفية والدينية، بشرط ألا تؤدى هذه المعتقدات إلى إشاعة الاضطراب أو الفوضى فى الساحة العامة للمجتمع.
وينص المبدأ الثانى على ضرورة الفصل بين السلطات الثلاث : التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. فالسلطة التشريعية هى التى تصدر أو تبلور القوانين، والسلطة التنفيذية هى التى تطبقها أو تحولها إلى واقع، والسلطة القضائية هى التى تعاقب من ينتهكون هذه القوانين حتى ولو كانوا من رجال السلطة نفسها.
وهذا المبدأ يهدف إلى إقامة دولة الحق والقانون، وهى تختلف عن الدولة السابقة القائمة على القوة فقط أو البطش والطغيان.
وأما المبدأ الثالث الذى لا يمكن لأى ديمقراطية أن تنهض وتستمر بدونه فهو مبدأ quot;العدالةquot;. فالديمقراطية الحقيقية لا ينبغى أن تكتفى بكونها ديمقراطية شكلية مفرغة من المساواة والعدل.. فماذا تفعل الحرية إذا كانت الجماهير جائعة لا تملك قوتها ؟.
بيد أن تراث الديمقراطية الليبرالية، خاصة فى انجلترا والولايات المتحدة، أدرك ضرورة وجود أحزاب المعارضة القانونية. ويعنى ذلك أن على حزب الأغلبية أو الأكثرية واجب التسامح مع حزب الأقلية المهزوم، ومن دون سياسة quot;التسامحquot; يمكن لسلطة الأغلبية فى وقت معين أن تؤدى إلى الدكتاتورية، وتنتهى فكرة الديمقراطية.
هذا التسامح يعنى، فيما يعنيه، أن القرارات والإجراءات التى تتخذها الأغلبية، بما فيها سن القوانين، يمكن أن تظل موضع انتقاد الجماهير.
هكذا نجد أن الديمقراطية الليبرالية تفرز التسامح وترعاه أيضاً، وأن التسامح بدوره يحافظ على الديمقراطية من أن تتحول إلى نقيضها (الدكتاتورية) وخطرها المتمثل فى الشمولية والدوجماطيقية والعنف. ذلك أن أية محاولة لإعطاء قرارات الأغلبية صفة (الإطلاق) تعنى انكار طبيعتها المشروطة. والتسامح يوفر المعيار الذى يمكن به لقرار الأغلبية أن يفهم ويفسر. ففى ممارسة الديمقراطية تحترم الأقلية قرارات الأغلبية، بما فى ذلك طاعة القوانين التى سنت. لكن هذا لا يعنى الموافقة كل الموافقة على هذه القرارات، فيظل للأقلية الحق من خلال وسائل الإعلام فى أن تطالب بتعديل القرارات التى تم إصدارها فى فترة انتخابية أخرى. ولذلك يجب أن تكون قرارات الأغلبية ذات طبيعة قابلة quot;للتسامحquot;.
أضف إلى ذلك أن الإمكانية القانونية فى تشكل أغلبيات جديدة يعنى أنه ليس للأغلبية فى أى وقت الحق فى أن تفعل كل ما فى وسعها لمنع مثل هذا التغيير، حتى وإن لم تكن راغبة فيه. فعلى النقيض من ذلك، ينبغى للأغلبية الحاكمة أن تقبل هذه الإمكانية على أنها مسألة مبدئية. وأنها لعلامة على ما يمكن أن يدعى تسامحاً بنيوياً فى جمهورية ديمقراطية أن يسمح قانونياً بتغيير الحكومة وأن يصبح التغيير ممكناً فى الواقع. والشروط اللازمة لهذه quot;المسئولية الحقيقيةquot; هى حرية الإعلام والنشر مع حرية التنظيم والتظاهر.
من هنا يصعب الفصل بين quot;التسامحquot; وبين الديمقراطية والتعددية.. فمع التعددية يحيا الاختلاف ومبرراته، حيث يقبل الجميع داخل المجتمع الديمقراطى مبدأ التسامح وحق الاختلاف الذى تفرضه اللعبة السياسية. وإذا أردنا تكريس التسامح وتأصيله ينبغى أن نعمل على ترسيخ الديمقراطية ومؤسساتها. ان التسامح هو أكثر من مجرد القبول بالآخر، إنه الاعتراف بالحق فى التباين، وقبول الحق فى الخطأ كحق من حقوق الإنسان، وعدم منع الآخرين، أو إكراههم على التخلى عن آخريتهم Otherness وتلك هى أهم مقومات المجتمع المدنى الحديث، وفي ذلك يقول كارل بوبر : quot;يؤمن الغرب بأشياء عديدة مختلفة، بأشياء طيبة وأشياء خبيثة ونوعية هائلة من الأفكار قابلة للوقوع فى الخطأ، والتسامح. فبعد أن أنهك الصراع الدينى والمدنى انجلترا أصبحت مستعدة لأن تسمع من لوك، وغيره من رواد التنوير، مجادلات عن التسامح الدينى، وأن تقبل مبدأ أن الدين المفروض بالقوة لا قيمة له، واستطاعت الديمقراطيات المعاصرة بروح التعددية أن تحترم اعتقادات الناس من كل صنف، بآرائهم ومعتقداتهم المتباينة quot;فالمجتمع التعددى هو الإطار الضرورى لتحقيق المعانى والأهداف السياسية quot;.

أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلافتسبب ملاحقة قانونية