اطلع على كتابي (في النقد الذاتي) من جزئه الأول الأخ أبو إبراهيم ليقول لي: ذكرت في كتابك (نقد الذات) كون العمل لابد له من نتيجة، وفندت قول المعارض المستدل بقصة نوح، ودلالات أُخرى، ولكني أجد quot; مع قصور عقلي ومستوايquot; أن في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم quot; يأتي الرسول ومعه الرهط، والرسول ومعه رجل والرسول وليس معه أحدquot; فيه دلالة على أن النتائج قد لا تحصل والأنبياء قدوات في العمل الدعوي...
وجوابي على هذا اللون من التفكير كما كتبت في مطلع كتابي في محاولة لتصحيح هذا المنهج الانقلابي؛ أن كل من اشتغل بالعلم لاحظ أن النتائج تعقبها أسبابها إذا انتفت موانعها، بمعنى أن أي حركة حتى تمشي على سكتها؛ فيجب أن يتوفر ما يولدها، وينتفي ما يمنع ولادتها، ففي الإلقاح مثلا، كل من تزوج قصد النكاح والجماع، من الجن والإنس والطير فهم يوزعون، وكل من تزوج ليس شرطا أن ينجب، ومراكز العقم التي غصت بها مشافي المملكة، وبذلت فيها الأموال الهائلة، في رواتب للعاملين فيها تذكر بالمهراجا، من أجل توفير الإنجاب لمن لا ينجب، في حين أن الرجال والنساء في ألمانيا، يهرعون لقطع نسلهم، وسفك بذرهم، وإنقاص أسرهم، لشعورهم بعظم المسئولية، مع كل تشجيع الدولة، ودفع رواتب الأطفال، وحين كنت في ألمانيا كان يدفع لي راتب خاص لبناتي الخمسة، ومن حولي من الألمان الذين لاينجبون ينزل راتبهم عن راتبي، فهم يفضلون أن لا يحصنوا وأن يمارسوا الزنا والأخدان..
والشاهد أن كل شيء في هذا الكون بني على سنة الله في خلقه، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها..
وهذه هي روح العلم، وفكرة القانون أو السنة بتعبير القرآن، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا..
وفي نزهة الفيلسوف التي نمارسها كل يوم، ويهجم فيها علينا المتشددون في كل مرة، بعد طول تحديق في النساء بالطول والعرض، ليعرفوا هل السيدة تلبس بنطالا تحت العباءة؟ أو لم تحكم إغلاق فوهات الوجه تماما إلى حد الاختناق، ونحن نصبر على أذاهم، ونتبادل الآراء في جو هذا الشوك اليومي المتناثر من حولنا، فلا يحسدنا فلاسفة اليونان عليها..
وفي أحد تلك الجولات قال لي صديقي الطبيب عبد الحكيم: عن قناة الحياة أن فيها أناسا يشفون من كل الأمراض، وأن حالات لا تحصى من السرطان تم القضاء عليها بالحبة السوداء والعسل والحجامة والفصادة وقراءة الأدعية على بعض أنواع المياه.. والمشعوذون أكثر من رمل عالج، وهم متناثرون في العالم وبعضهم في كندا وألمانيا، ولكن ليس لهم سيطرة على الجو، أكثر من وجود الغربان في الريف.
وجوابي أن هذا المفصل هو ما يفرق بين العلم والخرافة..
ولو أن رسول الرحمة ص عاش في عصرنا لقال لنا تعلموا الطب، وكونوا روادا في كشف العلم، والسيطرة على العاهات، وفك الجينوم البشري، وأسرار تقنيات المجهر الإلكتروني..
والمصطفى ص عاش في عصر ليس فيه حبة أسبرين، ويموت الناس من انفجار زايدة، ونزف جرح والتهابات بسيطة، وهو ـ بأمي هو وبأمي ـ مات من حالة إنتانية، بحمى لازمته الأيام ذوات العدد، و لربما كانت حمى تيفية أو مالطية، وهي من الأمور المقدور عليها في أيامنا...
وهكذا ففي كل عصر يتطور من الطب ما يوازي مقدار العلم، وبعد ألف سنة، سيضحك علينا الأطباء كم كنا جاهلين؟ لا نفقه أسرار المرض والعلاج؟؟
وهكذا فالعلم يمتاز بست أمور: القانون والعلنية وتبادل الخبرات والتطور بآليتي الحذف والإضافة والشمولية، وليس فيه من أسرار، بل مؤتمرات تخضع فيها الآراء للتمحيص الشديد..
ونحن اليوم نستطيع أن نخدر العصفور والفيل وابن آدم، وأي طبيب يتخصص في التخدير يتمكن من هذا الفن.
والعلم له قوانينه التي يجب أن تستجيب حين توضع شروطه، فالنار إذا سلطت على الماء والبارود والشمع والحليب اختلفت نتائجها، فتبخر الماء وذاب الشمع وانفجر البارود وفار الحليب، ولا أعرف لماذا؟؟
وحين يقول الأخ أن النبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، فليس لأن دعوته غلط، بل لوجوده في تربة قاحلة مالحة ماحلة..
وأنا مثلا أعيش مطوقا بجمهور هائل من أطباء هم أقرب للسباكين وسائقي الشاحنات، ولا يستفيد مني أحد بفكرة، بل إن بعضهم يحذر كل قادم جديد، أن لا يقترب مني مسافة أربع أذرع، كما أوصى مجمع السنهدرين في معاملة سبينوزا الفيلسوف الهولندي..
فهذه قصة معروفة ومكررة، أن مزمار الحي لا يطرب، وأن الأفكار تحتاج زمنها وتربتها..
وفي الإنجيل هاهو ذا الزارع قد خرج ليزرع، فبعض الحب سقط على الأرض، فلما طلعت الشمس احترق، وبعضه جاء الطير فخطفه، وبعضه وقع بين الشوك، فلما طلع اختنق، وبعضه وقع في أرض طيبة، فأخرج ستين ومائة؟
قال الحواريون لا نفهم لماذا تأتي بالأمثال؟ نحن لا نفقه كثيرا مما تقول؟؟ قال الحق أقول لكم إن قلب هذا الشعب قد غلظ، وكم مرة أشرح لكم بأمثال فلا تفهمون، فأما الذي سقط على الأرض واحترق فهو من تعرض للمحنة فلم يصبر فاحترق..
وأما من خطفه الطير فهو الشيطان يخطف قلوب العباد..
وأما من وقع في الشوك، فهذا له قصة مختلفة، غرور العالم وشهواتها تمنع نمو الأفكار..
وأما من وقع في أرض طيبة فهي الأفكار في تربتها وزمانها فتعطي نتائج في حجم أشجار طلعها هضيم..
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا..
والعراقيون جاءتهم فرصة التاريخ؛ فتخلصوا من عصابة صدام البعثية بصدفة تاريخية لا أكثر، وإلا كيف نفهم مجيء بوش، وصدام يعطيهم ما يريدون، وهم من أتوا به كما أتوا بصنوه الوحش السوري..
وكان بإمكان العراقيين بعد التخلص من الوحش، أن يبنوا عراقا بديعا يكون نموذج لأولنا وآخرنا في واحة شرق أوسطية..
وها نحن نرى الشعب العراقي وقد تشرب قلبه العجل الصدامي، حول العراق إلى حمام دم، فنبت بعد موت صدام ألف صدام وصدام...
كما في قصص ألف ليلة وليلة..

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه